لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

حول الحاجة إلى استراتيجية صناعية متكاملة بالمغرب بعد «كورونا»

حقق المغرب في العِقْدِ الأخير إنجازات مهمة في ميادين السيارات وصناعة الطيران والنسيج والأوفشورينغ، والصناعات الكيميائية، والصناعات الغذائية، والصناعات الكهربائية والإلكترونية، والصناعات الميكانيكية والحديدية. ومع ذلك، فإن جزءاً ليس بالهين من صناعته موجهة للتصدير، ولا تلبي كل حاجيات السوق الداخلية وتعتمد بشكل كبير على الشريك الأوروبي.
جائحة كورونا وما تطلبته من إعادة توجيه الإنتاج نحو صناعة الكمامات وأجهزة التنفس والأدوية أظهرت نقط قوة الصناعة المغربية. لكن اضطراب سلاسل الإمداد على مستوى بعض الأجزاء المُستعمَلة في الصناعات الغذائية في الأسابيع الأولى من الحجر الصحي (مارس/ آذار)، والاعتماد الجزئي لقطاعات السيارات وصناعة الطيران على سلاسل الإمداد في الصين وأوروبا، وإلغاء طلبيات الأسواق الإسبانية والفرنسية على النسيج المغربي، كل هذا طرح أكثر من سؤال حول «نضج» واستقلالية وتنافسية المجهود الصناعي المغربي.
عرفت الصناعة المغربية تحولات مهمة على مدى الستين سنة الماضية. في دراسة مفصلة للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية تحت عنوان «التصنيع والتنافسية العامة للمغرب» (2014) تم تقسيم التطور الصناعي في المغرب إلى أربع مراحل. أولاً، سياسة تعويض الاستيراد (1960 - 1982) عبر حماية جمركية وتشجيعات من الدولة، وهي سياسة أعطت نتائج محتشِمة؛ لأن «الحماية خلقت نتائج عكسية ونظراً لضعف آثار التبعية» (على الشغل وعلى السوق المحلية) وسيطرة القطاع غير المُهَيْكَل والتهريب (المرجع نفسه).
ثانياً، دعم الصادرات الصناعية (الغذائية والمعدنية وفي ميادين النسيج والجلد) والمناولة على الصعيد الدولي (1983 - 2005) والمُعتمِدة أكثر على اليد العاملة الرخيصة، وهي سياسة لم تُؤدِ إلى صعود ممونين محليين، ولم يكن لها تأثير على صناعات مرتبطة بها، ولم تصمد أمام تنافسية اليد العاملة المكوَنة القادمة من أوروبا الشرقية (المصدر نفسه).
ثالثاً، المهن العالمية للمغرب (2005 - 2014) والتي تُرَكِز على مهن يمكن للمغرب أن يحقق فيها تنافسية كبيرة على المستوى الدولي وبسرعة، خصوصاً السيارات، والأوفشورينغ، والكهرباء، والإلكترونيك، والصناعات الغذائية، وصناعة الطيران (المصدر نفسه). رابعاً، سياسة التسريع الصناعي (2014 - 2020) والمعتَمِدة على خلق منظومات تتكامل فيها سلاسل الإنتاج التابعة لكل قطاع والرفع من نسبة الاندماج والعمل على تحسين عوامل الإنتاج والرفع من التنافسية على المستوى الدولي.
سياسة المهن العالمية للمغرب والتسريع الصناعي أعطت نتائج مهمة. أصبحت صناعة السيارات المغربية الآن مُندمِجة كلياً في سلاسل القيم الدولية وتُمَثّلُ 26 في المائة من الصادرات (بقيمة 7.7 مليار دولار) و27 في المائة من فرص الشغل الصناعية؛ وتعرف السيارة المغربية نسبة اندماج (أي نسبة الأجزاء المصنعة في المغرب) تصل إلى 67 في المائة (وزارة المالية المغربية، مديرية الدراسات والتوقعات المالية، «صناعة السيارات: نحو آفاق جديدة للنمو»، 2020). أما النسيج والألبسة فيُشَغِل نحو 190 ألف شخص، وله قيمة تصديرية تتجاوز 4 مليارات دولار («إجراءات الدعم، المهنيون يريدون أكثر» إيكو أكتو، 4 أبريل (نيسان)، 2020)؛ وارتفعت صادرات الصناعة الغذائية إلى نحو 5.5 مليار دولار («المغرب: إنتاج، استيراد، تصدير»، فلاح - ترايد، 2017)؛ أما الأوفشورينغ فإنه يحقق ملياراً ونصف المليار دولار كقيمة تصديرية، ويعتبر قطاعاً استراتيجياً واعداً ومرناً. من جهة أخرى، يحتل المغرب رتبة تنافسية متقدمة في قطاع صناعة أجزاء الطائرات بنسبة اندماج تبلغ 37 في المائة وقوة تنافسية تحركها 142 شركة متخصصة ونحو 17500 مهندس وتقني متخصص وبمردودية تصديرية تبلغ مليارَي دولار (المجموعة المغربية المتخصصة في صناعات الطيران والفضاء، «بيان صحافي»، 16 أبريل، 2020).
ومع ذلك يبقى القطاع الصناعي المغربي معتمِداً بشكل كبير على الأسواق الخارجية، وعلى إعادة التوطين، خصوصاً من بلدان الاتحاد الأوروبي وعلى الطلبيات الخارجية فيما يخص النسيج ومن ضعف تطور المنظومات المندمِجة لسلاسل الإنتاج (تشالينج، «ضرورة التصنيع»، 8 - 14 مايو (أيار) 2020). المفارقة هي أن المغرب رائد في أفريقيا والعالم العربي فيما يخص «المهن العالمية للمغرب»، والتي تدر عليه نحو 16 مليار دولار من الصادرات، وفي الوقت نفسه يستورد الكثير مما تحتاج إليه السوق الداخلية من لوازم منزلية، وقطع غيار، ودراجات ودراجات نارية، وتجهيزات طبية وفلاحية، وغيرها من السلع التي كان يصنعها في السابق.
أضف إلى هذا أن الدعم الكبير الذي قدمته الحكومة على مر سنوات لقطاعات مثل العقار والفلاحة، جعل رأس المال يَهْجَر الصناعة للاستثمار في البناء والضيعات الفلاحية.
من جانب آخر، فإن تمويل الصناعة لا يمثل إلا 9 في المائة من مجموع التمويلات التي تقوم بها المؤسسات البنكية، 23 في المائة منها فقط تُخَصَصُ لمشاريع استثمارية و56 في المائة هي عبارة عن تسهيلات سيولة بفوائد مرتفعة (مجلة تشالينج، العدد نفسه). وهذا ما يجعل عوامل الإنتاج الصناعي غير مُيَسَرة بالشكل الكافي لإقلاع صناعي حقيقي.
بينت جائحة كورونا قدرة الصناعة المغربية على التكيف بسرعة لإنتاج الكمامات وأجهزة التنفس. لكنها أظهرت كذلك ضرورة وضع استراتيجية حقيقية لصناعة مغربية مبنية أولاً على السوق الداخلية، وثانياً على التصدير والانخراط في سلاسل الإنتاج العالمية.
إن اتفاقيات التبادل الحر، خصوصاً مع تركيا، مُجْحِفة في حق الصناعة المغربية؛ لأن الأتراك يقومون بعملية إغراق الأسواق المغربية ببضائع النسيج والمواد الغذائية والتجهيزات المنزلية، ولا يستثمرون في المغرب بالشكل الكافي، ويضعون حواجز غير جمركية في وجه الصادرات المغربية، ويتحايلون على الحواجز الجمركية التي وضعها المغرب على الواردات من النسيج بالمرور عبر الأردن أو مصر مستغلين «اتفاقية أغادير» التي تعطي تسهيلات للدول الأربع المنخرطة في هذه الآلية للتبادل البيني العربي. لهذا؛ فإنه أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه الاتفاقية وغيرها لحماية الصناعة الوطنية. وهذا يقتضي كذلك ترشيد الاستيراد وتوجيهه نحو الاستثمار في صناعة محلية للمنتوجات نفسها بدعم من الحكومة.
العمل على تقوية عوامل الإنتاج الصناعي ضروري، خصوصاً على مستوى الولوج المسهَل للعقار ورفع العراقيل الإدارية وتذليل العقبات اللوجيستية وتكوين الموارد البشرية والاستثمار في الرقمنة والثورة الصناعية الرابعة والبحث العلمي. وعلى مستوى التمويل، يبدو أنه آن الأوان لوضع أسس بنك وطني للتنمية لمواكبة الاستثمار في الميدان الصناعي، خصوصاً مع تنامي نزعة البنوك التجارية المغربية على تمويل الاستهلاك والعقار والسيولة أكثر منه المشاريع الاستثمارية البعيدة المدى. كل هذا في إطار إعطاء التفضيلية للمنتوج الوطني والمقاولة الوطنية ليس لأغراض حمائية، لكن لتقوية عود الإنتاج الوطني وتمكين الاقتصاد المغربي من لعب دور أقوى على حلبة العولمة.
أخيراً، بالإضافة إلى توسيع وتمكين ودعم الطبقة الوسطى لتكون الفاعل الأساس في دعم الطلب على المنتوج الوطني، لا بد من وضع أسس استراتيجية وطنية للعلم والاختراع والتكنولوجيا لإيجاد حلول مغربية لمشاكل اقتصادية مغربية. يتوفر المغرب على مقومات هائلة لخلق القفزة المنشودة نحو مستقبل أفضل على مستوى الصناعة شريطة استغلال الاضطرابات التي أحدثتها جائحة كورونا، من أجل تدبير ذكي واستراتيجي لتحول فعلي إيجابي عميق ومستديم.