سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

احفظ وسمّعني

أثبتت التجربة، والجميع يشكو ويتأفف، أن أموراً ثلاثة لا بد من توفرها، كي يكون التعليم عن بُعد ناجحاً: الأدوات من أجهزة وكهرباء وإنترنت، وتعاون جماعي تكاملي، وقبلها جميعاً، وعلى رأس اللائحة، قناعة التلميذ والأستاذ معاً، بأن من يريد أن يتعلم ويُعلّم، بمقدوره أن يتخطى كل الحواجز.
العائق النفسي كان سبباً رئيساً في جعل هذه التجربة التعليمية التي فرضت على 165 بلداً، هزيلة عموماً في العالم العربي، وفي بلدان عديدة. فإن كانت دول أفريقية تعاني مناطق فيها من غياب تام للخدمات، استعيض عنها في ظل الجائحة الحالية بدروس تبث عبر الإذاعات ومحطات التلفزة، فإن الحال أفضل كثيراً عند أهل الضاد؛ لكنهم لا يقدّرون، وثمة أوروبيون يعيشون المعضلة نفسها.
فأنت قد توفر للتلميذ كل وسيلة؛ لكن النفور العام يجرف ولا يذر. لا أحد يدّعي أن التعليم عن بُعد الذي لا يزال في بداياته، ولا ألق له أو جاذبية، يتمتع بأفضل المقومات، أو أنه صالح لأنْ يحل مكان حيوية الصف وتفاعل الإنسان مع الإنسان؛ لكنه وصفة سحرية يمكن أن يستعان بها في الملمات، وما أكثرها في بلداننا. فالعراق يعيش حروباً متوالية منذ عقود، ولبنان اضطراباته لا تنتهي، وليبيا في مأساة، واللاجئون السوريون بالملايين محرومون أطفالهم من التعليم، ولا داعي لاستكمال اللائحة؛ لأنها طويلة ومؤلمة.
وإذا كان إيقاف التعليم لظروف مأساوية قدراً في السابق، فهو لم يعد كذلك. ونحن كأمم تأكلها الثأرية، وتحكمها النزاعات، لمن أكثر الشعوب حاجة لمثل هذا التعويض لتلامذتنا، وربما علينا أن نكون أول المندفعين لإنجازاته، وآخر تطوراته. ومن لا يزال منا يعيش سالماً آمناً، ها هي جائحة «كورونا» تؤرقه، وتهديد استمرارها لفترة طويلة يفرض عليه تدبّر أمره، كما بقية شعوب الأرض.
ومع جائحة «كورونا» ومن دونها، لنا مصلحة بإسقاط الحجج واستبدال البواعث والحلول بها. وزارات التربية العربية عملت جاهدة، وبينها من استثمرت ونجحت. جهود جبارة بُذلت في الشهور السابقة. ومن لا يصدّق عليه أن يبحث عن عدد المنصات والتطبيقات التي أُنجزت، والمواد التي سُجلت. وإذا لم يكن لـ«كورونا» من فضيلة، فإن هذا النشاط الهائل الذي بثته عبر الإنترنت في مجال التعليم العربي، هو حقاً مما يفترض تثمينه؛ لكن أهل الصدود والتبرّم ما بمقدورك أن تفعل بهم!
إذا كان التعليم المدرسي عبر الإنترنت يحتاج إقناع الأهل وتدريبهم، وتنويرهم، إلى ثمين مهمتهم، وضرورة صبرهم، فإن التعليم الجامعي تحلّ معضلاته بحيوية التعاطي بين الطالب وأستاذه، وتطويع الإمكانات والأدوات بما يناسب الغالبية. فمن غير المقبول أن طالباً يقضي نهاره على «فيسبوك»، ولا يهدأ عن التراسل عبر «واتساب»، حين يصل الأمر للاستماع لمحاضرته المسجلة، يتحدث عن شحّ الإنترنت. بالطبع الخدمة في لبنان تعسة وتحتاج دعماً؛ لكن المبالغة ليست في مكانها.
في العمق، المشكلة هي في فهم معنى التعليم الذي لا يزال تقليدياً: «احفظ وسمّعني»، بينما هذا النوع الجديد يحتاج تكثيفاً لما يعطيه الأستاذ، وهو ما يستدعي منه جهداً مضاعفاً، وتحضيراً مختلفاً عما كان سابقاً، واستعانة بأدوات جديدة، ولمَ لا تكون إلى جانب المكتوب، فيديوهات، وأفلام، ورسوم، وكل وسيلة متاحة، بينما على التلميذ أن يسخّر ساعاته للقراءة، والبحث، وتوسيع مداركه. وهذه الطريقة إنْ هي اتُّبعت، فسيجد الطالب ما لذّ وطاب من المواد التي وضعتها جامعات أخرى على مواقع، ومعلومات لم يكن يحلم بأن يصل إليها، وهو جالس في سريره. وفي هذه الحال، فإن الامتحان - خصوصاً في المجالات الإنسانية - يصبح ممكناً إلكترونياً، والغش الذي لا يزال العائق الأكبر عن بُعد، ممكناً؛ لأنك تسأل الطالب عن عمق معارفه الشخصية، لا في عدد محدد من الصفحات، يضعها أمامه وينسخها لك.
ثمة - ربما - من لا يعرف، أن تطبيقات أصبحت جاهزة لاستخدامها من دون إنترنت، عند إعادة الدرس، وأخرى مخصصة للتليفونات، ولمن لا كومبيوترات في حوزتهم، ومنصات تعليمية مفتوحة بالعربية والإنجليزية وكل لغة تريدها، وستجد من يشرح لك على «يوتيوب» أي درس تشاء.
ما حدث تربوياً في الأشهر القليلة السابقة، ثورة حقيقية، ساهمت فيها «اليونيسكو» بفاعلية. افتح موقعها وستجد أنها جمعت للطلاب عشرات المواقع، وتقدم لهم دليلاً وافياً لترشدهم إلى من يجيب احتياجاتهم. وهي تربط بين عشرات الشركاء، بينهم التكنولوجي والفنان والمخترع ورجل الأعمال، لتنجز ابتكارات بالسرعة الممكنة، تتيح التعليم لأي طفل مهما رقّت أحواله. فلم تعد المشكلة كيف تفتح مدارس، وإنما كيف تأتي بالمدرسة بكامل زهوها إلى البيت عبر الإنترنت، قبل أن تصل إليه تمديدات مياه الشفة؟
التفاوت الرهيب بين طفل سنغافوري وآخر في شمال نيجيريا أو جنوب السودان، ليس لصالح أحد، بعدما تبين أن المصير مشترك، والكارثة حين تحط فإنما على الجميع.
ليس قليلاً أن ملياراً ونصف مليار طفل وشاب، تعطلت دراستهم هذه السنة حول العالم. محنة فريدة وحزينة تعيشها البشرية للمرة الأولى. بين هؤلاء مئات الملايين بلا أجهزة، وعدد مماثل بلا إنترنت نهائياً. هذه ليست حال غالبية الطلاب العرب الذين يتمتعون بتليفوناتهم، على أقل تقدير، وبشيء من الجهد والتضحية، وبالقناعة أولاً، يمكنهم التغلب على الصعاب.
التحدي كبير؛ لكن هناك من لا ييأس ولا يتعب، ويواصل البحث عن الحلول، وبيننا من لا يريد أن يحتفظ بيأسه لنفسه، ويصرّ على أن يوزعه على العباد.