عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مواجهة عدو غامض

العالم لا يزال يصارع العدو الغامض «كوفيد - 19» الجديد، وتسميته تعكس الغموض لأنه جديد الاكتشاف في 2019. تفاوت تعامل الحكومات ما بين النجاح والإخفاق نسبياً.
قرار التعامل مع الأزمة ليس بيد علماء الصحة، والطب، والأمصال، والفيرولوجيين، بل بيد الساسة رغم احتمائهم وراء العلماء كدروع بشرية بالادعاء أن سياسة مكافحة الوباء تستند إلى توصيات المختصين علمياً.
ويبدو أنها حجة في جعبة الدفاع عن أنفسهم عندما تحين ساعة التحقيقات البرلمانية أو القضائية عن مسؤولية اتخاذ قرارات أدت إلى ارتفاع الوفيات عن معدلات بلدان أخرى، أو المحاكمة الأكبر التي يخشاها الساسة في صناديق الاقتراع، فيحاولون إقناع الناخب أنهم اتخذوا القرار وفق معلومات قدمها علماء الطب والصحة. تصريحات الساسة يومياً في البلدان الديمقراطية لا تذكر الاقتصاد والمال كسبب وراء التهاون في الاستعداد مبكراً والتقصير الذي لا يغتفر في توفير معدات فحص الاختبار المعملي لتحديد الإصابة بالفيروس، ومعدات المستشفيات كأجهزة التنفس الصناعي، ووسائل حماية الأطباء والممرضات.
تساءل بريطانيون عما وراء تحويل الانتباه إلى «مناعة القطيع»، أو الجدل حول فاعلية القناع الواقي في منع انتشار العدوى. الحقيقة هي نقص الإمكانيات بسبب بيروقراطية الصحة العامة وإهدار ميزانياتها، فلم تتوفر معدات ومعامل اختبار الفيروس بما يكفي لاحتواء الانتشار كحال بلدان أخرى، ونقص الأعداد الكافية من الأقنعة الواقية للعاملين في المستشفيات ويخشون أن يسبقهم الناس لشرائها فتختفي من الأسواق.
المؤتمر الصحافي اليومي للحكومات، كما في 10 داوننغ ستريت أو البيت الأبيض، غرضه المعلن هو إطلاع الناس بشفافية على أخبار الوباء، سلباً أو إيجاباً، وتطوراته ومعالجته كي يتخذوا خطوات سليمة للحفاظ على صحتهم.
من التعمق في دراسة المعلومات والأرقام المعلنة يتضح أنها ناقصة، «فالشفافية» إذن ليست الكلمة الملائمة. استمرت وزارة الصحة البريطانية في نشر أرقام الوفيات من المستشفيات فقط وكانت قاربت العشرين ألفاً الأسبوع الماضي، حتى نشرت مصلحة الإحصائيات القومية الأرقام من شهادة الوفيات لتشمل مساكن المسنين والعجزة لتفوق أرقام الوفيات 26 ألفاً وتتجاوز إسبانيا، وتصبح الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة وإيطاليا.
عبارة الاسترشاد بتوجيهات العلم في اتخاذ قرار حاسم مناقضة جوهرياً لمفهوم العلم. فالتشكيك هو أساس المفهوم العلمي، فليس هناك ثابت أو يقين، فكل نظرية ومفهوم خاضع للتغيير ببراهين جديدة حسب التجربة العلمية في المعمل. ولأن الفيروس جديد، فالعلم الوحيد الذي يرشدهم الآن، هو أرقام الإحصائيات لا تجارب المعامل، وأي مشغل للكومبيوتر يدرك أن النتائج هي محصلة معادلة لوغاريتمية تعتمد على المعلومات التي أدخلت للبرنامج. حتى نهاية الشهر الماضي يوم الخميس بلغ عدد المصابين بالوباء ثلاثة ملايين و321 ألف من سكان العالم، والضحايا الذين قتلهم «كورونا» 234 ألفاً و392 إنساناً (7.06 في المائة من المصابين)، وتماثل للشفاء مليون وخمسون ألفاً (بنسبة 31.59 في المائة). الأرقام بعيدة عن تقدير المختصين عند بداية الوباء قبل ثلاثة أشهر، إذ توقعوا وفيات دون واحد في المائة وتماثل للشفاء فوق 90 في المائة. دليل على خطأ نتائج من تغذية الكومبيوتر بأرقام إحصائيات فقط في بداية الوباء بلا الاستناد إلى براهين طبية وعلمية لم تتيسر آنذاك.
تباينت أرقام الوفيات بين البلدان المختلفة بفروق هائلة، ففي جمهورية سان مارينو (وفيات «كورونا» 1208 لكل مليون من السكان) تبلغ النسبة 2416 ضعفاً لنسبتها في هونغ كونغ (شخص واحد في مليوني نسمة)، بينما تبلغ في بلجيكا (665 - للمليون) 166 ضعف معدلات أستراليا (4 وفيات في كل مليون).
عدة عوامل وراء حسن أداء بلدان تمكنت من الحفاظ على سلامة سكانها وأخرى تسبب سوء أداء حكومات أو قصر نظرها أو تهاونها في موت الآلاف مباشرة بالفيروس أو نتيجة مضاعفات الإصابة به، أي وفيات كان يمكن تجنبها. كثير من هذه الإجراءات تخضع لما يعرف بالـcommonsense أو المنطق الطبيعي للإنسان. فضرورة الحد من انتشار العدوى واحتوائها، أمر لا يختلف عليه اثنان، حتى مع عدم وضوح الكيفية الآلية والحيوية لانتقالها. فالازدحام لا شك يزيد من انتشار العدوى، كإقامة مباريات رياضية وسباق الخيل ومهرجانات في شهر مارس (آذار) في بريطانيا والتأخر في إجراءات العزل، ومع ذلك لا يزال المسؤولون (بما في ذلك حكيمباشي الصحة العامة، وكبير علماء المملكة) يصرون على أن الإجراءات وتوقيتها كان مناسباً. فحص أرقام وإجراءات البلدان المختلفة يبين أن انخفاض معدلات الوفيات من «كورونا» أو ارتفاعها يعود إلى عوامل مثل كيفية الحد من انتشار العدوى بخطوات تشمل التوسع في اختبار المصابين بالفيروس وحامليه لعزلهم؛ وتوقيت فرض الحجْر الصحي والعزلة وتحديد الحركة؛ والاستعداد المبكر أو المتأخر بمعدات وأطقم ومعامل الفحص والتجهيزات الطبية؛ وتوقيت نقل المصابين بأعراض «كوفيد - 19» للمستشفى.
مثلاً في بريطانيا حتى نهاية الشهر كان معدل الوفيات (دون الرقم الحقيقي) 400 للمليون وكان معدل اختبارات الفيروس 13 ألفاً للمليون نسمة، بينما في ألمانيا الوفيات 79 في المليون بمعدل اختبارات 30 ألفاً و400 في المليون. الإمارات 11 وفاة - للمليون و113443 اختباراً - للمليون؛ كوريا الجنوبية 5 وفيات - للمليون و12 ألف اختبار - للمليون. عامل آخر لنجاح هذه البلدان وأيضاً نيوزيلندا (4 وفيات للمليون) كان الحجْر الصحي أسبوعين لأي وافد؛ إجراء لم يتخذ في بريطانيا. إذن التوقيت والتحرك المبكر من أهم العوامل. قبل تسعة أسابيع كانت نسبة اختبارات فحص المصابين ببريطانيا دون 0.0034 - مليون لكنها كانت مائة وستة عشر ضعفاً في كوريا الجنوبية (0.558 - مليون).
بريطانيا لنقص الإمكانيات لا تنقل المصابين بأعراض «كورونا» للمستشفى إلا بعد قضاء أسبوع في البيت كإنفلونزا عادية، وبالتالي تكون حالتهم الصحية تدهورت كما حدث مع رئيس الوزراء بوريس جونسون نفسه، بينما في البلدان التي انخفضت فيها معدلات الوفيات ينقل للمستشفى المشتبه بأعراضه فوراً.
اليوم ترتفع الأصوات (والمظاهرات في بلدان كأميركا)، مطالبة بإنهاء العزل والحصار والعودة للنشاط الاقتصادي، والخطورة أن الساسة قد يستجيبون لهذه الضغوط. لكنهم (الساسة) هم أنفسهم الذين اتخذوا قرارات خاطئة أو متأخرة لأسباب سياسية واقتصادية في التعامل مع فيروس، لم تدرس ملامحه أو طرق انتقاله أو mutation ميتونيته (تحوله التركيبي وتطوره) ولا يوجد مصل واقٍ منه أو علاج لتخلص الجسم منه أو حمايته من تدمير الفيروس.