خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من بسالات الماضي إلى بسالات الحاضر

مما لاحظته في الأيام الأخيرة في لندن تدفق المحاربين القدماء؛ من شيوخ وعجائز، إلى الشوارع يحملون أوسمتهم ويمشون على عكازاتهم ويحاولون جمع مبالغ زهيدة لمساعدة المرضى والمُقعدين في المستشفيات. وكانت استجابات الجمهور مدهشة. خرج رجل عجوز يحمل أوسمته القديمة على صدره... كان الضابط توم موور يتوقع ويتمنى جمع ألف باوند للمستشفيات ووزارة الصحة. ما إن رآه الناس حتى جادوا بمبالغ سخية له. إذا بهم يتبرعون بمبلغ تسعة وعشرين مليون باوند.
تمرّ بريطانيا في الأيام الأخيرة بأزمة وباء «كورونا»، والظاهر أنها ذكّرتهم بصعوبات الحرب العالمية الثانية. ومن نتائج ذلك، أن أوحت لهم بالتحدي والصمود. وعلى عكس ما طالبت به السلطات من البقاء في البيت، كان الشباب منهم يخرجون في الطرقات يصفّقون، ويحمل الشيوخ أوسمتهم على صدورهم كأنهم يذكّرون الجميع بما فعلوه في الأمس؛ أي في الحرب العالمية... كما فعلنا بالأمس عندما دحرنا فلول النازية؛ فسنفعل اليوم مثل ذلك فندحر موجات «كورونا».
ومن نتائج ذلك أيضاً ميلهم لمساعدة بعضهم بعضاً في هذه الأيام الحرجة. يسألون جيرانهم: كيف الأحوال؟ هل ينقصكم الخبز؟ هل نأتيكم بالدواء من الصيدلية؟ لا عجب في أن نرى الشيوخ والعجائز يخرجون ويتذكرون بطولات الأمس. فما إن يروا الشبيبة يطوفون في الشوارع حتى يصفّق بعضهم لبعض. فيسمع بذلك السكان فيخرجون من دورهم ليتبادلوا التصفيق معهم. أصبح ذلك من عادات المجتمع، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. أصبح ذلك من عادات المجتمع البريطاني.
وحدث أن شارك في هذا النشاط بعض الفنانين من مطربين وموسيقيين؛ ومنهم كانت المغنية الشهيرة، فيرا لين التي تجاوزت المائة سنة، وكله ضمن هذه المعركة الضارية الجارية ضد الوباء والمرض.
وفي هذه المعركة يمكننا أن نلمس الروحية القديمة، روح تشرشل وأتلي. ومن الملاحَظ أن مواكب الشبيبة التي تطوف الشوارع وتدوي بالتصفيق والهتاف في سائر الحارات غدت من تقاليد المجتمع البريطاني، بل والأوروبي عموماً، ولا أراها إلا قد تحولت إلى جزء من الحياة الأوروبية، على خلاف ما تعودنا عليه.
وبهذه الروح؛ يمكننا أن نلمس عزيمة المجتمع الغربي، بل والعالم أجمع، على دحر الوباء وتخليص البشرية عموماً من شروره، كما فعل آباؤنا وأجدادنا تماماً في الماضي القريب... فهذه ليست بتجربة عابرة.