جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

مقاومة العزلة

هذا الحجْر المنزلي الذي فرضه كورونا الرهيب أعادني إلى سبعينات القرن الماضي. كنت في منزلي لا أستطيع الخروج، كان كورونا من نوع آخر.
في عام 1977، استدعيتُ، ذات يوم، إلى مقر المباحث العامة في طرابلس. وقتذاك، كنتُ طالباً جامعياً مطروداً، وممنوعاً من السفر للخارج. حدث هذا بعد أحداث أبريل (نيسان) 1976، سيئة الصيت، التي علّمت لنهاية كل أصوات المعارضة في الجامعات الليبية، ومكّنت النظام السابق من بسط سيطرته عليها. خلال تلك الأحداث، تعرضتُ مع عشرات الطلاب للاعتقال مدة شهر في مركز شرطة الأوسط، بطرابلس. ولم يُفرج عنّا إلا بتوقيع تعهد شخصي بعدم العودة إلى الحرم الجامعي. وعقب الإفراج عنّا بأيام قليلة أصدرت الجامعات قرارات بطرد كل طالب لم يُثبت ولاءه للنظام. وتلا ذلك صدور قرار من وزارة الداخلية بحرمان الطلبة المطرودين من السفر ومواصلة الدراسة بالخارج.
هذه الضربات السريعة المتتالية، جاءت بنهاية غير متوقعة لآمالي في إكمال دراستي الجامعية، ووضعت حداً لطموحي الأكاديمي مستقبلاً، وألقت بي على قارعة طريق. وكان لزاماً عليَّ تدبر أمري، والبحث عن مخرج من النفق المعتم الذي وجدتني أتخبط داخله.
لذلك، حين وقف على باب بيتنا، ذلك اليوم، رجل أمن طالباً حضوري في اليوم التالي، لمقر المباحث العامة، شعرتُ بقلبي يسقط في أحشائي، ودعوت الله ألا يكون الاعتقال مصيري. وحين قادتني قدماي، في صباح اليوم التالي، إلى ذلك المقر الكريه، تُركتُ منتظراً في ردهة استقبال أرضية، عارية من الأثاث، لأكثر من ثلاث ساعات، قبل أن يقف أمامي ضابط مباحث شاب يطلب مني مرافقته. في مكتب صغير، بطابق علوي، قدّموا لي تعهداً مطبوعاً على آلة كاتبة، وطلبوا مني التوقيع عليه. وحين قرأته، اتضح لي أنني، منذ تلك اللحظة، سوف أكون رهين الاعتقال المنزلي إلى حين إشعار آخر. كانت تلك أول تجربة لي في الحجْر المنزلي لأسباب غير صحّية!
استمر الحجْر الأمني أسبوعين، وخلالهما رتّبت أموري داخل البيت بمحاولتي إغلاق كل المنافذ التي من المحتمل أن ينفذ إليّ منها المللُ والضجر. وكانت القراءة وسيلتي التي عبرت بها جسر العودة إلى الحياة مجدداً. الاعتقال المنزلي شمل كل زملائي المطرودين، كأن هدفه كان تذكيرنا بأن الحكومة لم تغلق ملفاتنا الأمنية، وحريصة على تذكيرنا بأننا ما زلنا قيد الرصد والمراقبة والمتابعة.
تجربة الحجْر الأمني تلك، تختلف، شكلاً وموضوعاً، عن تجربة الحجْر الصحي حالياً. فالأولى كانت مقتصرة عليّ وعلى زملائي فقط. وهذه الأخرى طالت الناس جميعاً، في خمس قارات. وكنتُ، وقتذاك، شاباً، من دون التزامات أو مسؤوليات عائلية. أضف إلى ذلك أن طرابلس، بل كل مدن ليبيا، بدأت، آنئذٍ، في عملية تحوّل ممنهج رسمياً إلى سجن كبير، تحت رقابة عينَي الأخ الأكبر. وشاهد الليبيون، في ذات السنة، ولأول مرّة، منذ نهاية الاحتلال الإيطالي، على شاشات التلفزيون وقائع نقل مباشر لأول عمليات شنق علني في مدينة بنغازي.
ويبدو لي أن العامل المشترك بين تجربتي العزلين الأمني والصحي، هو الخوف. الخوف من مصير الاعتقال السجني الطويل في الأولى، أو الموت من جراء الإصابة بوباء فيروس «كورونا».
العزلة الصحية، التي استدعتها الوقاية من الإصابة بالوباء الفيروسي، ليست عزلة بالمعنى المتعارف عليه. فنحن وإن اُضطررنا إلى الانسحاب من الحياة من أجل الحفاظ على الحياة، لم ننعزل كليّة عن العالم، وما يدور فيه من أحداث، ولم ننفصل بالكامل عن أصدقائنا وأحبتنا، لأن الإنترنت، والحواسيب، وأجهزة التواصل الذكية تكفلت ببناء جسور إلكترونية مكّنتنا من التواصل. ورغم ذلك، فإن تأثيراتها النفسية انعكست بنسب مختلفة على المحجورين. فقد قرأتُ، مؤخراً، أنه لدى بداية تفشّي الفيروس في الصين، ولجوء الحكومة إلى إجراءات الإغلاق وفرض العزل الصحي بقوة القانون، انقسم الصينيون المحجورون إلى فئتين؛ واحدة سُمّيت الفئة القططية، والأخرى الفئة الكلبية. الفرق بين الاثنتين، أن القططيين أكثر تسامحاً مع العزلة وقبولاً للبقاء في البيوت، في حين أن أفراد الثانية لم يتقبلوها، ودفعت بهم إلى حافة الجنون. لكنّ هذا التصنيف يتجاهل فئة أخرى، قد تكون صغيرة نسبياً، ممن لا يمكن تصنيفهم ووضعهم بثقة تحت أيٍّ من الفئتين. أصحاب هذه الفئة، حسب وجهة نظري، هم كأصحاب منزلة بين المنزلتين، وبالتالي، فإن أوضاعهم في الحجْر تجعلهم نفسياً في مواجهة مع عزلة أكثر تعقيداً.
هناك فئة من الناس تعاملت مع العزل الحالي بإيجابية، رافعة شعار رُبَّ ضارة نافعة. أصحاب هذه الفئة هم ممن حباهم الله بمواهب عدّة، على رأسها فضيلة التحلي بالصبر. وأنجعهم، في رأيي، أولئك الذين اختاروا، بوعي وإدراك للموقف العام، الجلوس إلى مكاتبهم المنزلية، وثابروا على تدوين مذكراتهم، يوماً بيوم، خلال فترة الحجْر، ورصد وتسجيل ما يحيط بهم، وما يدور حولهم وعليهم من أمور وأحوال، أولاً بأول، ومحاولة التقاط ما يدور في أذهانهم من أفكار، وما ينعكس في أفئدتهم من عواطف ومشاعر وأحاسيس. هذه المتابعة التوثيقية للشأن العام وانعكاساته على الذات المحجورة، وما يحدث فيها من تداخلات وتفاعلات، ستكون منجماً ثميناً يجنون أرباحه مستقبلاً، ومن خلالهم سيصل إلى أولادهم وأحفادهم، وإلى غيرهم.