خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

السلوك المشين لفلول العثمانيين

وقائع متشابهة حدثت في القاهرة وسويسرا والمغرب وإسطنبول والدوحة خلال السنتين الأخيرتين. إسلامجية يُضبطون في ممارسات أخلاقية تناقض ما يدّعون إليه. لم تتشابه الوقائع فقط، بل تشابه أيضاً رد الفعل: كلهم لا يعتذرون عما فعلوه، ولا أقروا به. كلهم اختلقوا أكاذيب مكشوفة يبرئون بها أنفسهم. كلهم حوّلوا أنفسهم إلى ضحايا مؤامرة من أطراف أخرى. والأدهى أن قواعدهم الشعبية تواطأت معهم على نشر تلك الأكاذيب. القيادات المؤثرة في التيار تواطأت معهم واستمرت في إذاعة الأكاذيب. لا نبذت الفعل ولا رفضته. لا يمكن أن يكون الموضوع مجرد مصادفة. لا بد من سبب يجعل الإسلامجي يمعن في الكذب. لا يعتذر. لا يقر وينزوي، أو يقر ويتحدى بأن تلك حريته الشخصية. والسبب أن الجماعة لا تطيق كلفة سقوط القناع الديني. هو بالنسبة لها عدة الساحر، وماكياج المهرج. لو سقط خربت المهمة، أو بانت الحقيقة المنفّرة المجرّمة. كلهم، قادة وقاعدة ودائرة، يعرفون ذلك. كلهم يعرف أنه على ثغرة من ثغرات هذا القناع، لا ينبغي أن يُرى الوجه الحقيقي من قِبله.
في الواقعة الأخيرة، التي تخص مقدم برامج «يوتيوب» ملتحياً ومرتبطاً بالآلة الإعلامية القطرية، وزّعت اللجان الإلكترونية تعليقاً انتشر بين قواعدهم الشعبية: «لا يهم ما يفعله. ما دام يناضل ضد النظام». يقصدون النظام السياسي في مصر. الترجمة: لا يهم التزامه الديني، ما دام -سياسياً- يؤدي الغرض. والتعليق يخص تسريبات كشف سلوك المذيع المناقض تماماً لمظهره، ولما يدعو إليه.
لكن حتى هذه العبارة -معارضة النظام السياسي- تضع الغرض السياسي في خانة الغرض المشروع، وتجعل من الواحد فيهم «صاحب رأي». فهل هذه الحقيقة أم مجرد تمويه آخر؟
الغرض المعلن من هذه الجماعة السياسية هو إقامة نظام سياسي يصفونه بالإسلامي. لتحقيق هذا الغرض هناك وسائل عدة منها «معارضة النظام السياسي»، ومنها «الإرهاب المسلح»، ومنها وصف الديمقراطية بالكفر، ومنها أيضاً رفع شعارات الديمقراطية. منها معارضة الاقتصاد «الربوي» في بلد، ومنها دعم الاقتصاد «الربوي» في بلد. معارضة السياحة في بلد، ودعمها في بلد. الوسائل تتلاقى وتتناقض. لتحقيق الغرض: «إقامة نظام سياسي يصفونه بالإسلامي». مرة أخرى: هل في هذا ما يعيبهم؟
انتبه. نحن لم نتمكن من الغرض بعد. إنما نقترب منه. هنا تبرز أهمية القناع.
هذه الجماعة نشأت عام 1928، بعد أربع سنوات من سقوط النظام الاستعماري العثماني، وغرضها هو إعادة هذا النظام. هم أنفسهم لا يخفون هذا. لكن حين يضيفون إليه القناع يتحول من «إعادة الاستعمار العثماني» إلى «إعادة الخلافة الإسلامية». بالنسبة إلينا -في عصر الدولة الوطنية- فالدولة العثمانية قوة استعمارية كغيرها. انطلقت من عاصمتها الوطنية، وأخضعت بلاداً أخرى. تماماً كما فعل البريطانيون انطلاقاً من لندن، والفرنسيون انطلاقاً من باريس، وغيرهم من القوى الاستعمارية.
هنا تأتي معارضة النظام، وإقامة النظام البديل، في سياقها، وعلى حقيقتها، مثلها مثل كل الأفعال والمواقف المتناقضة الأخرى التي يدعمونها في مصلحة تركيا، ويعارضونها لإضعاف دولهم الوطنية. الغرض إذن هو «مساعدة تركيا على تحقيق مشروع العثمانية الجديدة». وهم -في الحقيقة- لا يخفون ذلك. كما لا تخفيه دوائر تساعدهم في تحقيق غرضهم المعلن، وإن اختلفت طرقهم في التعبير.
لكن بإضافة قناع الإسلام إلى المعادلة يحوّلون الموضوع من التعاون مع دولة أجنبية على إعادة استعمارها لأوطاننا، إلى قضية دينية. دون هذا القناع هم على حقيقتهم. مجرد طابور خامس موجود مثله في العالم كله. مرتبط لأسباب آيديولوجية بدول خارجية ومنفّذ لرغباتها.
موقع الدين من هذا الغرض السياسي الأعلى، كما موقع الدين من أغراضهم المرحلية، لا يهم الالتزام به. المهم هو تحقيق الغرض.
إنما الأهم دائماً من التحليل، هو البناء عليه إجرائياً وسياسياً. الغرض من هذا التحليل هو كيف نحوّله إلى خطوة إجرائية.
أولاً: أن نعيد تعريف هذه الحركة السياسية كـ«فلول العثمانيين». أن يكون هذا اسمها وليس الاسم الذي اختارته لنفسها.
ثانياً: الكفّ عن إقحام الجدل الديني في موضوع الجماعة السياسية العثمانية، وحصره كلياً في التعامل السياسي. في السياسة، هذه جماعة خارج الرفقة الوطنية السياسية. جماعة سياسية تعمل لحساب استعمار سابق. كل منتمٍ إلى هذه الحركة، مجرد انتماء، يجب أن يُعامَل قانوناً على هذا الأساس. كل متعاون مع هذه الحركة يجب أن يُعامَل على هذا الأساس. هكذا فعلت ألمانيا مع النازيين. وفعلت إيطاليا مع الفاشية. رغم أن منطلقهم السياسي كان أكثر ارتباطاً بمركزية أوطانهم في الإمبراطوريات المزمعة. على عكس الطابور الخامس الذي لدينا.
الانطلاق من تصحيح التسمية مهم أيضاً في مخاطبة الإعلام محلياً وعالمياً. لأنه يوجز للجميع أين نصنّف هؤلاء؟ كيف نراهم؟ وما طبيعة الصراع السياسي بيننا وبينهم؟ حين تقول للعالم: «الإخوان المسلمين»، لا يفهم أين المشكلة. تدفعه إلى تكرار نفس الخطأ الذي فعلناه. فيقيس أفعالهم في إطار «فهم الإسلام»، وليس في إطار الغرض السياسي. وبالتالي ينشغل بـ«تصحيح» الإسلام لا التعامل مع الغرض السياسي. ويعدّهم الممثلين عن مسلمي الغرب لا ممثلين عن اتجاه سياسي. أما حين تقول له: «فلول العثمانيين» و«العثمانية الجديدة»، يفهم أين المشكلة. والأهم، يفهم المسلمون أين المشكلة.