حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

انتصار الثورة اللبنانية نهاية الحرب الأهلية

انطوت بيوم 13 أبريل (نيسان) الجاري 45 سنة على بدء الحرب الأهلية اللبنانية. حرب بين الطوائف اللبنانية، وبالوكالة عن أطرافٍ إقليمية، زرعت الخوف ورسّخت القلق بعدما أريقت دماء 150 ألفاً من المواطنين، وتركت عشرات ألوف المعوقين من الجرحى، ونحو 20 ألفاً من المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم بعد! كما أحدثت تغييراً ديموغرافياً قسرياً طال نحو ثلث اللبنانيين، ودماراً فاق عشرات مليارات الدولارات.
بدءاً من خريف عام 1990 بدأت مرحلة من السلم الأهلي الذي لم يكتمل، كان قانون العفو عن جرائم الحرب من معالمها الرئيسية، فأتاح ذلك انتقالاً مريحاً لزعماء الحرب ورموزها من المتاريس المتقابلة إلى مقاعد الحكم المتجاورة، مستندين إلى وصاية نظام الاحتلال السوري ومشيئته، وهو الذي خطّط لإقامة طويلة. تبعاً لذلك لم يوفر المحتل وآلته الدعائية أي جهد إلا وبذله لابتداع مفاهيم غَبّ الطلب تغطي مآربه من نوع: «شعب واحد في بلدين» و«ما بين سوريا ولبنان لم يصنعه إنسان»! وهندس حالة وحدة بين لوردات الحرب والمال، فكان تعليق غير معلن للعمل بالدستور، الذي حلّ مكانه نظام محاصصة طائفي مذهبي نابذ للكفاءات، فتحوّل البلد باكراً إلى رصيف هجرة للشباب على وجه العموم، والكفاءات على وجه الخصوص، كنتيجة طبيعية لاتساع جغرافيا الفقر. عليه كان اتفاق بين اللبنانيين على تاريخ بدء الحرب الأهلية لا نهايتها، فيما راحت أكثرية منهم تترحم على السنوات السوداء، التي لم يسجل خلالها أن مواطناً واحداً ضاقت به الدنيا فأقدم على حرق نفسه حتى الموت، بعدما دمره العوز، كما فعل جورج زريق مطلع عام 2019 قبل ثورة تشرين بعدة أشهر، وتكرر الأمر مراراً بعد الثورة رفضاً للمذلة!!
عرف لبنان من تسعينات القرن الماضي تدميراً ممنهجاً للدولة، فكان إدخال أعراف وممارسات جديدة وتفكيك للمؤسسات لتسهيل الإمساك بالقرار والتحكم بالبلد، فانتشر فساد مريع نخر المؤسسات الرسمية واستبيحت الحريات العامة وسُجل انتهاكٌ كبير للسيادة والاستقلال. وعلى مدى السنوات الـ45 سواء في ظِلّ الاحتلال السوري، أو بعد ذلك في مرحلة تغوّل الدويلة بعد عام 2005، بوصفها وكيل هيمنة النظام الإيراني، تكررت الوجوه على مقاعد الحكم أو استنسخت، وكان الثابت ترسخ الاستزلام والتبعية. 6 أشخاص أمسكوا بكل مواقع القرار، ومجالس نيابية شبه هامشية، فشكلوا مظلة سياسية واقية لكارتل مصرفي - سياسي، حقق أرباحاً فلكية، كانت كلها ذات ترتيب مدروس وضعت بعناية كمشاريع في الموازنات والأعمال التي أقرتها المجالس النيابية المتعاقبة، ما أدى لتمركزٍ خطيرٍ في الثروة. هنا يكفي أن نشير إلى أن إجمالي رأس مال المصارف ارتفع من 140 مليون دولار في عام 1993، إلى ما يزيد على 21 مليار دولار في عام 2015! وارتفعت أرباح القطاع المصرفي، المملوك بنسبة جيدة من السياسيين، إلى أكثر من 80 مليار دولار في 27 سنة فقط! مقابل ذلك تفاقمت البطالة، وارتفعت أرقام الفقر!
بعد 30 سنة على بدء سلم أهلي ناقص، باتت نسبة كبيرة من اللبنانيين عاجزة عن تأمين متطلبات الحياة اليومية، بعدما بات الاهتراء هو الأساس والفساد هو القاعدة، ومن الأعراف تكريس الزبائنية ومحاباة الأقارب والأتباع، وكل شيء مباح أمام استباحة منظومة المحاصصة الغنائمية، فتجاوز الديْن العام 170 في المائة نسبة إلى الناتج الوطني! وكان طبيعياً مع هكذا تركيبة إغراق البلد بالنفايات، وتسجيل الأرقام القياسية في مجال الفساد الكهربائي، حيث رتب الاستنزاف ديْناً فاق الـ42 مليار دولار، أي ما يعادل 45 في المائة من إجمالي الديْن، والكهرباء بالكاد تزور بيوت المواطنين! وعلى الدوام كان الاستثمار بالكراهية وإثارة الأحقاد الطائفية والصراعات المذهبية، سلاح النظام الطائفي القوي على الناس كي يستمر، ومعه تستمر الدولة مجرد بنيان ضعيف هش... حتى فاضت الكأس في 17 تشرين.
منذ عام 2016 كان الانهيار المالي يتظهر، وهو بدأ في عام 2011، لكن الأداء الرسمي لم يتغير. كثيرون برروا «التسوية» عام 2016 التي سلمت البلد إلى «حزب الله» والنظام الإيراني، بالزعم أنهم اشتروا الاستقرار لتحسين الاقتصاد والعودة للازدهار وأنهم أخذوا حق البلد بـ«النأي» عن حرائق المنطقة، والنتيجة كانت مزيداً من الاستتباع لمحور الممانعة، وبالتالي عزلة البلد. لكن لم تكن تلك السياسات مجانية، فقد جرت مقايضة الاستقرار والازدهار بمصالح شخصية، ورغم معرفتهم المبكرة باهتزاز وضع المصرف المركزي وأنهم يسطون على ودائع المواطنين، وأن الدولار بات شحيحاً في البلد، ذهبوا في ظلّ «الحكم القوي» و«حكومة استعادة الثقة» في عام 2018 إلى تسديد حاملي سندات الدين، وجلهم من الكارتل المصرفي السياسي مبلغ 7 مليارات و700 مليون دولار، عوض أن يتحملوا مسؤولية المبادرة إلى إعادة هيكلة الديْن وتغيير الاتجاه، لكنهم سرّعوا في تدابيرهم الانفجار!
تجمعت تراكمات 30 سنة بعد اتفاق الطائف فأخرجت الناس إلى الساحات وهم يتهمون التحالف الطائفي بالمسؤولية عن نهب البلد وإفقار أهله. موجوعون وحّدهم الجوع، شَكّل تحركهم من دون أن يتقصّدوا طيّ صفحات الانقسام الطائفي، وتبلور الصراع بين تحالف أحزاب الحكم الطائفية من جهة وقوى ثورة تشرين من جهة أخرى، فبدأت منظومة الحكم تتصدع مع سقوط حكومة «الوحدة الوطنية»، فتقدم «حزب الله» فرقاء الحكم وتموضع دفاعاً عن نظام المحاصصة الطائفي، وبدأت مرحلة الاستفزاز والتعديات بعد التخوين واعتبار أن مشروع الثورة نقيض الدويلة. وغني عن القول إن الناس لم تخرج كلية من مفاعيل الحرب، وهذا الخوف استخدمه «حزب الله» بشكل منهجي، وشكّل انتشار وباء «كورونا» حليفاً موضوعياً للحزب والحكم، الذين راهنوا على أن الضغوط للتطويع ستجعل الناس ترضى بأي شيء!
مع تظهير صورة الحاجة إلى مرحلة انتقالية، تحتم قيام حكومة مستقلة عن الأحزاب الطائفية تستعيد ثقة الداخل والخارج، وتحمي استقلالية القضاء وتوقف استباحته، وتحمي الفئات الأكثر حاجة وتحضر البلد لانتخابات مبكرة تسمح بإعادة تكوين السلطة، وإنجاز تغيير سياسي حقيقي، رسمت ثورة تشرين الطريق المفضي إلى الخروج النهائي من الحرب الأهلية وتداعياتها، ووضع البلد على سكة استعادة الدولة المخطوفة، وما لم تجد الثورة الأطر للخروج من المراوحة، والحضور لا يكون فقط في نمط من التظاهر والاعتصامات، بل يبدأ من إشهار سلاح الموقف إلى تنسيق فعاليات احتجاجية في المدن والمناطق، تراعي الحجْر الصحي وتفضح المنحى المخادع للحكومة الواجهة، حكومة العجز عن القرار والمتهمة مع الجائحة بالتواطؤ على حياة الناس والتلكؤ عن تأمين مستلزمات العيش للمحتاجين. لا وقت للترف لا سيما بعد الإعلان الرسمي بأن حجم الانهيار، بدون احتساب نتائج «الكورونا»، يفوق 126 مليار دولار، من أصلها 43 ملياراً خسائر مصرف لبنان، بات خارج المنطق أن يُناط الإنقاذ والنهوض بالجهات التي تسببت في الانهيار!