مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

الوقفة الكونية

من فوائد فيروس «كورنا»، إذا كانت للفيروسات فائدة، أنه وضع العالم كلَّه في حالة توقف مؤقت (pause)، مثلما الحال عندما تضغط على زر التوقف عند مشاهدة فيديو، يتوقف العالم ليتأمل النظام العالمي حاله وتتأمل كل دولة أحوالها على حدة، ووصلت حالة التوقف المؤقت إلى الأفراد أيضاً، ليتوقف كل منا متأملاً حاضره ومستقبله. ومع اقتراب شهر الصوم عند المسلمين تكون لحظة التأمل على المستوى الفردي مضاعفة.
على المستوى العالمي لاحظنا زيادة في سرديات قدرة الميكروبات على إنهاء الإمبراطوريات، خصوصاً الإمبراطورية الرومانية التي تعد الأطول في الزمان الإمبراطوري من أي إمبراطورية أخرى. وكيف لميكروب تطور في مدينة بورسعيد المصرية في عام 571 ليتمدد حتى القسطنطينية ثم يصيب الإمبراطور ذاته، ويعرف باسمه كطاعون جستينيان ويقضي على نصف عدد سكان الإمبراطورية ويستمر الوباء في الانتشار إلى قرنين من الزمان، ليؤدي إلى انهيار الإمبراطورية حسب بعض الروايات التاريخية. وكما كان هناك، نكون هنا، ففريق آخر من المؤرخين يرى أن القول إن الميكروب أدى إلى انهيار الإمبراطورية الرومانية لا دليل عليه. هذا الجدل الذي بدأت تتضح ملامحه في فريق يقول إن العالم ما بعد «كورونا» لن يكون كما قبله، وفريق آخر يقول إن العالم لن يتغير كثيراً بعد انتهاء جائحة «كورونا». هذا الجدل يقع في مساحة التوقف المؤقت. هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فقد انكشف للعالم ومؤسساته، والأمم المتحدة أولاها، أن المؤسسات لا تعمل بالكفاءة التي تأسست من أجلها، كما أن التنسيق بين المؤسسات الدولية بدا فاشلاً في أحسن أحواله. لذا وجب التوقف للحظة للتفكير في التنسيق بين المؤسسات وليس مجرد قدرتها فقط.
فكرة العالم كقرية صغيرة بدت واضحة في انتشار الفيروس، ولكنها في الوقت ذاته بدت متهافتة في مواجهة الجائحة؛ عولمة في انتشار المرض وأنانية محلية في المواجهة والعلاج. وهذا أيضاً يحتاج إلى وقفة تأمل. النظام الدولي بات مكشوفاً ويحتاج إلى مراجعة أو إعادة نظر. هذا ما ينبغي ولكن هل هذا ما ستؤول إليه الحال؟ لا أحد يعلم.
على مستوى الدول كوحدات أساسية مكونة للنظام العالمي كانت سياسة الانغلاق، لا الانفتاح، هي أساس طريقة العمل (modus operandi)؛ من غلق الحدود إلى وقف الطيران إلى اختلاف درجات الحظر. النظام العالمي ظهر كنظام دول أساسه (أنا ومن بعدي الطوفان). لن أتحدث عن أعمال القرصنة من قِبل بعض الدول للاستيلاء على معدات طبية وكمامات لأنها لا تمثل ظاهرة بعد. المهم هنا هو أن الانغلاق لا الانفتاح والأنانية لا التعاون، هي أهم ملامح نظام يحتاج إلى وقفة وإعادة نظر.
مستوى التنسيق بين المؤسسات داخل الدولة الواحدة انكشف أمام الوباء، باستثناء بعض الدول الغنية والأقل من حيث تعداد السكان، التي ظهرت بشكل أفضل مثل دول الخليج الثلاث المتمثلة في السعودية والإمارات والكويت. ومع ذلك تواجه هذه الدول فجوة انطباعها عن ثقافة مواطنيها مقابل حقيقة سلوكهم، وهذا أيضاً يحتاج إلى وقفة.
الأفراد أدركوا هشاشة الحالة الإنسانية ورسموا حدودهم الشخصية من خلال حاجز الكمامة على الوجه والتباعد الاجتماعي، ليرسم كل منا خريطة حدوده الشخصية بعلامات ورمزيات واضحة. يجلس الفرد في بيته وعينه شاخصة على ملك الموت المتخيل والقابع خلف الباب. موت قريب ومعلن، وخوف الإنسان من دفن أخيه الإنسان، كل حسب تعاليم دينه، يجعل كلاً منا يضغط على زر التوقف المؤقت. ونتيجة لهذا التوقف على المستويات الثلاثة؛ العالم والدولة والفرد، أجدني منحازاً إلى جماعة أن العالم بعد «كورونا» سيكون غير العالم قبلها، على الأقل على مستوى الإدراك. كونوا بأمان.