د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هل كان الشعوبيون على حق؟

قبل أزمة كورونا، كانت الحرب جلية بين تيارين، الأول منهما يدعو إلى تكامل اقتصادي عالمي، يمكن للعالم من خلاله تقليل التكاليف الصناعية وتكامل سلاسل التوريد العالمية واستفادة دول العالم من ميزات بعضها البعض لزيادة مستوى الرفاه المعيشي. وكان التيار الآخر يدعو إلى استقلالية الدول واكتفائها الذاتي وتقوية اقتصادها المحلي باتباع سياسات الحماية الاقتصادية. التيار الأخير كان هو التيار الذي انتقده الكثير من الاقتصاديين، وهو التيار الذي يتبع الرئيس الأميركي «ترمب» بمقولته الشهيرة (جعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، والتيار الذي يتبعه مناصرو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ذات التيار اليميني الذي اجتاح الحكومات الأوروبية وكثيرا من دول العالم، ذلك هو التيار الشعوبي الذي طالما استند مساندوه إلى ضرورة عدم الاعتماد على الدول الأخرى.
ولو كان لأزمة فيروس كورونا أن تقف في جانب أحد الصفين، فلا بد أنها تقف في صف الشعوبيين، الذين ساندت هذه الأزمة كثيرا من مطالبهم. فيصرح (بيتر نافاروا) المستشار الاقتصادي للرئيس الأميركي (أن الدرس الأكبر من هذه الأزمة هو عدم الاعتماد على الغير في المنتجات الطبية). ومن الصعب جدا لومه في هذه المقولة، فحين اشتدت الأزمة، نجت كل أمة بما لديها من مؤونة ومتاع لتواجه به الأزمة على انفراد، فالاتحاد الأوروبي منع تصدير الأجهزة الطبية للخارج، والهند منعت تصدير لقاح الملاريا (هيدروكسي كلوروكين) والذي أبدت بعض الدراسات أنه قد يكون حلا للفيروس. والرئيس الأميركي أصدر أوامره لمصانع السيارات لإنتاج أجهزة التنفس الصناعي بهدف تغطية النقص في السوق الأميركي، ودول آسيوية مثل فيتنام أصدرت قرارات تمنع تصدير الأغذية للخارج. هذه هي القرارات الرسمية المعلنة، أما عن قرصنة بعض الدول للمنتجات الطبية والأدوية فهي لم تثبت حتى الآن، وإن كان من الصعب جدا غض الطرف عنها. هذا هو العالم اليوم، والذي وإن انكشفت عنه الغمة، فسيكون بصدد اتخاذ قرارات لا يمكن تجنبها، قرارات فرضتها أوقات صعبة جعلت سياسات مثل الحماية الاقتصادية تبدو منطقية.
وقد سبق للرئيس الفرنسي في وقت سابق (قبل هذه الأزمة) التصريح بأن استيراد الأغذية من دول أخرى يعد ضربا من الجنون، ولا شك أن هذا التصريح حينها بدا بعيدا عن المنطق، فلا يمكن لكل الدول أن تنتج جميع أغذيتها بنفسها، ولكن مع هذه الأزمة، هل ما زال هذا التصريح غير منطقي؟ هذه الأسئلة سوف تطرحها الشعوب والحكومات ومتخذو القرار فور انتهاء الأزمة، ولولا انشغال الشارع الآن بأزمة كورونا، لكانت هذه الأسئلة هي الشغل الشاغل للشارع.
وقد يبدو منطقيا أن تجنح الكثير من دول العالم إلى الاكتفاء الذاتي في الصناعات الاستراتيجية، ولكن ما هي هذه الصناعات؟ هل تنحصر هذه الصناعات في الأدوية والأغذية؟ هذه هي الصناعات التي بدت كأنها استراتيجية في ظل أزمة كورونا الصحية. ومفهوم الصناعات الاستراتيجية يختلف من دولة لأخرى، فالولايات المتحدة ترى صناعة الطائرات والسيارات صناعات استراتيجية، وكذلك صناعة أشباه الموصلات المتقدمة. والصين ترى أن شركة (هواوي) شركة استراتيجية. وكذلك الكثير من الدول التي تتدخل في صناعات محلية بعينها بحكم كون هذه الصناعات «استراتيجية» للدولة. ولكن كم من الصناعات تستطيع الدول حمايتها من المنافسة الخارجية ودعمها حكوميا بحكم كونها صناعات استراتيجية؟ وقد يكون الحل في تكوين شراكات دولية جديدة تستطيع الدول من خلالها التركيز على صناعات محددة ضمن تحالف محدود. إلا أن هذه التحالفات لن تكون الحل المطلق، ولو كانت كذلك لما عانى الاتحاد الأوروبي من نقص الإمدادات هذه الأيام. بل إن اتهامات القرصنة الدولية كانت متبادلة بين دول الاتحاد الأوروبي نفسه.
إن أكثر سؤال يطرح هذه الأيام هو (كيف سيكون شكل العالم بعد كورونا؟)، وهو سؤال تصعب إجابته لكثرة المعطيات، والحل الشعوبي الذي يرى أن اكتفاء كل دولة بحد ذاتها ليس حلا طويل المدى. والتاريخ يشهد أن العالم بعد كل أزمة، وحتى مع تنافره أيام الأزمات، إلا أنه يعود مرة أخرى ويجد حلا جماعيا لهذه الأزمات. فالعالم أنشأ عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، واجتمع ليخرج بمنظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية للحفاظ على السلام العالمي. وبعد الأزمة المالية اتحد العالم ليزيد من دور مجموعة العشرين في الحفاظ على الاقتصاد العالمي من أزمات مشابهة. وقد تكون أول خطوة بعد هذه الأزمة هي تشكيل أممي جديد، يكون هدفه ألا يسقط العالم مرة أخرى في أزمة صحية كما هي هذه الأزمة، أما الاقتصاد العالمي، فتغييره عما هو عليه يحتاج إلى أكثر من ذلك، والعلم عند الله.