علي المزيد
كاتب وصحفي سعودي في المجال الاقتصادي لأكثر من 35 عاما تنوعت خبراته في الصحافة الاقتصادية وأسواق المال. ساهم في تأسيس وإدارة صحف محلية واسعة الانتشار والمشاركة في تقديم برامج اقتصادية في الإذاعة السعودية، ومدير التحرير السابق لصحيفة الشرق الأوسط في السعودية وهو خريج جامعة الملك سعود.
TT

رأساً على عقب

كنا ولا نزال في العالم العربي نؤمن إيماناً يقيناً بكل ما يأتينا من الغرب، لا سيما في المائة سنة الماضية، خصوصاً ما يأتينا من نظريات علمية، وبعضنا يعتبرها قطعية مع أن العلم أثبت خطأ بعضها.
وفي جائحة «كورونا» انقلب الأمر رأساً على عقب، فقد اتخذت دول الخليج، على رأسها السعودية، إجراءات جريئة وغير مسبوقة في مواجهة الجائحة، وكالعادة بدأ كارهو دول الخليج بإصدار الشائعات لتفسير هذه الخطوات، خصوصاً خطوة الحجر الصحي ومنع التجول، ولكن ما هي إلا عدة أيام ليكتشفوا أن ما قامت به السعودية وتبعتها دول الخليج هو الصحيح، وفوجئوا بالمنظمات الدولية وبعض السياسيين الغربيين يطالبون دولهم بأن تقلد السعودية.
نحن في العالم العربي ليست لدينا الثقة الكافية بأفعالنا، ولكن هذه الجائحة قد تقلب الأمر رأساً على عقب. ففي الشام، حين اجتاح الطاعون مدن الشام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، اقترح والي الشام عمرو بن العاص، رضي الله عنه، الحجر الصحي، وأمر سكان الشام أن ينتشروا في الجبال، وألا يزيد عدد كل مجموعة عن خمسة، وبهذه الطريقة زال الوباء، وقد اختصرت القصة لأنها في ظني معروفة، وأيضاً لأني سأقص عليكم قصة غير معروفة في العالم العربي، فتذكر الروايات أنه خرج جماعة من مدينة الرس، وهي تقع غرب مدينة بريدة، بقصد الحج، وكان أمير القافلة يدعى ابن رخيص، خرجت القافلة تقصد الحج، وفعلاً انتهت مناسك الحج، وفي العودة إلى مدينتهم الرس أصيب شاب صغير السن بالجدري، وكان الناس في ذلك الزمان يخافون من المرض لأنه شديد الفتك والعدوى، لذلك يتركون المصاب بالجدري في مكان منعزل، ويدعون لديه طعاماً وشراباً، فإما أن يموت أو يتعافى ويلحق بقومه.
ولكن في قصتنا هذه، رفض أحد أفراد القافلة، يدعى ابن ريس، مغادرة المريض، وأصر على خدمته، كون هذا الشاب المريض وحيد أمه، وقد تركتهم القافلة بين جبال، وتسمى بلغة أهل الجزيرة «ضلعان».
فما كان من ابن ريس إلا أن ذبح ناقته وجفف لحمها، وهذا بالعربية يدعى القديد، وبدأ يصيد في النهار، ويطعم مريضه، ويأكل ليعيش، وإذا لم يجد صيداً أكل ومريضه من القديد.
لن أطيل عليكم القصة، فقد كتب الله الشفاء لهذا الشاب، وعادا لمدينتهما التي فرحت بهما، ومن ذلك اليوم أطلق أهل الرس على ابن ريس «أبا الضلعان»، ليتحول الاسم إلى «الضلعان»، وهو اسم عائلة موجودة حتى الآن تنتمي لذلك الرجل، وقد خلّد «أبا الضلعان» هذه الفعلة بقصيدة مشهورة، لست بصدد ذكرها، ولكن أهم ما فيها سؤال وجهه «أبا الضلعان» لأمير الحج مفاده ماذا ستقول لأم الشاب إذا جاءت تسأل عن وحيدها؟
كان ذلك في زمن الضعف العربي والتشتت، واليوم نعيش زمن الدولة والمؤسسات، لذلك الثقة ستكون أكبر.
الحكومات الخليجية سبقت الحكومات الغربية في التعامل الصحيح مع الجائحة، ولكن بعض شعوبها أو المقيمين فيها استهتروا بتعليمات الحكومات، ما جعل الحكومات كل يوم تتخذ إجراءات أشد لضبط من لم ينضبط، في المقابل تراخت الحكومات الغربية في التعامل مع الجائحة، فيما انضبط معظم شعوبها بالتعليمات الاحترازية، وهذا لا يعني أنه ليس هناك مخالفون، ولكنهم محدودو العدد، فيما لدينا، كما يقول المتحدث الرسمي لوزارة الصحة السعودية، أن غير المتقيدين يبلغ 40 في المائة، مما حدا بالحكومة لتشديد إجراءات الحجر حماية للمجتمع.
الغريب أن الدول الغربية فكرت في الاقتصاد أولاً، وهذا أثار مواطني هذه الدول التي يتشدق سياسيوها بحقوق الإنسان، فيما فكرت دول الخليج، على رأسها السعودية، بالإنسان أولاً، وهذا قرّب القيادات إلى شعوبها، ورغم ذلك لم تنس دول الخليج الاقتصاد لتوفر له الدعم والمساعدة.