سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أبعد من «كمّامة»

يصف طبيب فرنسي «الكمّامات» بأنها «مخزون استراتيجي» فرّطت فيه بلاده، بعد أن كانت في السابق، تخزّن الملايين منها لوقت الحاجة. وأميركا ليست أفضل حالاً في الشح، فقد هدد ترمب بـ«الانتقام»، وبأنه لن يسمح لدول أخرى أن تحصل على أي أقنعة تعوزها بلاده. وقد وفّى الرئيس الأميركي بوعده، وما لم يعطَ له بالمعروف انتزعه بالقوة، وأخذ كمّامات كانت متجهة إلى ألمانيا، وفرنسا وكندا، غير آبهٍ بالجيرة، بواسطة عملاء له في الصين، يدفعون أكثر فتكون لهم الأولوية. وهو ما تفعله دول كثيرة من دون أن تفوز بالسبق. وتشغّل إسرائيل استخباراتها، ويشن «الموساد» عمليات ليستولي قبل الآخرين على المعدات الطبية، وعلى رأسها «الكمامات» بالطبع، التي طلبت منها فرنسا وحدها مليارين من الصين. وسرّ هذا الواقي للوجه، على بساطة صنعه، أن الدول تحتاج كميات هائلة منه، لا يمكن لأحد توفيرها، إلا بلداً بضخامة الصين.
ولا تعرف إن كان عليك أن تبكي أو تضحك، وأنت ترى الكمامة، التي لم يكن يعيرها أحد اهتماماً، تصبح النجمة التجارية الأولى والحاجة الإنسانية الأكثر إلحاحاً. وبقي الآسيويون طويلاً موضع سخرية الأمم، لأنهم يستخدمون الأقنعة، فإذا بالشعوب تحسدهم، ويرون في وصفتهم، المخلص الأوحد المتبقي لهم، في جائحة لا يعرف أحد لها نهاية أو حلاً.
وما بعد الحجر ستكون الكمامة جزءاً من أزيائنا، ومكملاً لحاجاتنا عند خروجنا. فلن يفك حظر من دون كمامات تقي الناس رذاذ بعضهم، وأنفاس زملائهم. ولا يعلم كم من الوقت ستبقى الأقنعة رفيقة المسافرين، والمتجولين في الشوارع، وإن كانت ستتحول إلى تقليد عالمي جديد يعتمده البشر، بعد أن يكتشفوا فوائد تغطية الفم والأنف، ولا بد أن له من الناحية الصحية فوائد جمّة.
ليس الغريب أن يعود لثام الوجه عند وصول جائحة بهذا الحجم، بل العجيب ألا يعمل به على وجه السرعة. فالحجر واللثام، أقدم وصفتين عرفتهما البشرية، خلال الأوبئة. وليس فيما اعتمده الآسيويون من اختراع، بقدر ما هو اعتراف بضعف وتواضع أمام محنة. وأن تحتاج بعض الدول شهرين أو ثلاثة لتقرّ تغطية الوجه وسيلة للوقاية، لهو بالفعل موضع استغراب، وسيكون محل حساب.
وستصبح المساءلة أشرس، بعدما تبين أن التشجيع على عدم استعمال لثام الوجه، لم يكن رأياً علمياً، بل فقداً في المستودعات، وشحاً في المستلزمات. وهو ما صار يطلق عليه في فرنسا «فضيحة دولة».
كان أجدى بالحكومات أن توصي مواطنيها، بصنع كماماتهم، وتصدقهم القول بدل أن تخدعهم. فأي شيء يقي الوجه أفضل من لا شيء. هكذا صار الرأي، وهذا هو ما سيقال للخارجين من الحجر.
وأن يرفض الرئيس الأميركي لبس الكمامة، ليس شجاعة في مواجهة المرض، بقدر ما هو رفض لنموذج ثقافي نقيض، بات حكماً مفروضاً على أوروبا، وهي ترسم مرحلة ما بعد «كورونا»، بوصفة آسيوية، تبدأ بالكمامة، وتمر بالاختبارات السريعة الشاملة، والتعقّب الإلكتروني (وهذا ما ستعتمده إيطاليا) الذي يفترض أنه يتنافى والمبادئ الغربية الليبرالية، ولا ينتهي بالتمييز بين السلبيين والإيجابيين، تبعاً لنتائج فحوصاتهم، وعزل بعضهم عن بعض.
كان يمكن لقماشة على الوجه، ألا تأخذ بعداً دراماتيكياً، وألا تُعطى كل هذه الرمزية الثقافية. فقد استخدمتها أوروبا، في فترات الأوبئة، والصور الموجودة من زمن الأنفلونزا الإسبانية تشي بذلك. لكن الصين بدهائها ساهمت في تضخيم البعد «الرمزي»، وأوغلت في تعميق الجرح النرجسي الغربي، بدل أن تخفف من وطأته، وراحت طائراتها تجوب البلدان موزعة كمّاماتها وقفازاتها والملابس الواقية على بلدان كبرى، صار أطباء فيها يلبسون أكياس النفايات من الشح، ويستخدمون القناع الواحد لأيام بدل استبداله بعد ساعات. وتستفيد الصين من الترحاب الحار والاعتراف بالجميل، في دول أحست أنها تُركت وحيدة في محنتها، وهو ما يعتبره الأوروبيون «بروباغندا» في غير وقتها.
يكتشف الأوروبيون أن غالبية معداتهم الطبية وأدويتهم تصنع في الصين، حتى مصانعهم القليلة المتبقية تنتظر موادها الأولية من بلاد التنانين، والهند معها. غير أن نقص الكمّامات مستفزّ بشكل خاص، لسهولة صنعها، وبدائية فكرتها.
حرب الكمامات تتمدد، لتتجاوز التوتر بين ثقافتين وحضارتين، وتصبح سبباً لحساسيات أوروبية بينية، ولا نعرف غداً ما ستكون تداعياتها. لكن بعد أشهر، لا بد ستحل أوروبا وأميركا قصة الأقنعة، لتولد حكاية أخرى مع الاختبارات، التي يتضح أن نسباً كبيرة منها تصل غير صالحة للاستعمال، وهامش الخطأ في نتائجها لا يزال كبيراً.
ومن سخرية الفيروسات، أن يصبح مقياس تحضّر دولة، أو تفوق حكومة، يقاس بقدرتها على توفير الكمامات لشعبها، بعد أن فقدت في دول تصنّع الطائرات والصواريخ. هكذا استغل إردوغان الفرصة، ليعلن على العالم أنه يوفر الكمامات لكل تركي، مهما طالت الجائحة، ومخزونه الكبير يوزعه بالمجان على من يريد من الأتراك، ويحمل فائضه إلى إسبانيا وإيطاليا. وترسل روسيا طائراتها المحملة بالأقنعة والمعدات الأولية الأخرى إلى أميركا. ويبشر ماكرون بأنه سيكون قادراً على تصنيع 15 مليون قناع محلي أسبوعياً في غضون أسابيع.
حرب الأقنعة تخفي غابات من المعارك التي تخاض على كل دواء وقفاز وإبرة بلاستيكية. وما لا يمكن تصديقه، في زمن التفوق العلمي والمعجزات التكنولوجية، أن الوصفات الثلاث الموثوقة الوحيدة حتى اللحظة التي تقيك «كوفيد - 19» هي؛ ابق في البيت، اغسل يديك باستمرار، إياك أن تنسى الكمامة إذا اضطررت لتجاوز عتبة الباب.