فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

في مسألة العتاب والعقاب رئاسياً

جاء رحيل حسني مبارك، خامس رؤساء مصر الجمهورية الذين باتوا في ذمة الله، تاركاً كل منهم بصمة تتميز عن بصمات الآخرين في التاريخ الحديث، في زمن نعيش كورونته التي أخفقت كل القوى العظمى حاملة سيف «الفيتو» على أصحاب القضايا المحقة ومعها دولة الحرس الثوري المسكونة بالحلم النووي الذي انتهى كابوساً ثقيل الوطأة على شعوبها، في الانتصار على جرثومة هزت دول العالم من القطب إلى القطب كما لم تهتز على هذا النحو من قبل مالياً وصحياً وتعليمياً وتنقلاً براً وجواً وبحراً وهواجس في النفوس من الهجمة الفيروسية التي لا ترحم، وكأنما هذه الجرثومة إنذار للمتجبرين على الأرض التي كانت خير هدية من رب العالمين، قوبلت بالجحود من جانب بعض البشر الذين يتجبرون بدل الحمد والشكر، ويحيلون بالصواريخ والنووي والحروب ومفردات التخاطب بيئة الخير والطبيعة الجميلة إلى كل أنواع التدمير الممنهج.
هذا الرحيل لرئيس عايشتُ كصحافي ميداني كما معايشتي للرئيسيْن اللذين رحلا من قبل، جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، وثلاثتهم من النسيج الواحد، تجعلني أستحضر من الذاكرة ومن الإضبارات التي تحوي من الأوراق ما كانت لأسباب موضوعية تخصني كصحافي، ويختص بعضها بمصالح الصحيفة («النهار» اللبنانية) التي أعمل فيها، توجب إبقاء أوراق ومعلومات وظروف وقائع طي الإضبارات إلى حين. وها هي مناسبة رحيل خامس الرؤساء تجيز لي الحديث عن ظروف صعبة يواجهها الصحافي ولا يدري بها القارئ الذي يكتفي بالتصفح وهو يطالع في صحيفته تفاصيل حدث استثنائي مثل ظروف ودوافع انتحار المشير عبد الحكيم عامر الأكثر قرباً ومحبة لعبد الناصر بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، ومثل الانتفاضة الساداتية التي أنهت نفوذ رموز الحقبة الناصرية، وما هي حقيقة رواية الضباب الذي بسببه أجَّل السادات حربه التي حدد موعدها، وكيف أنهى بقرار إخراج الخبراء السوفيات العاملين في الجيش المصري مدربين ومستشارين، مهابة الدولة العظمى وقيادتها المثلثة، مساهماً في انقلابها على تاريخها وعقيدتها. كما كيف جرى سيناريو استعادة مصر عضويتها في الجامعة العربية، وبالتالي استعادة مقر أمانة الجامعة من تونس إلى مكانها الأصيل القاهرة. وأما ما يتعلق بسنوات علاقة ليبيا القذافية بالعهود الرئاسية الثلاثة (عبد الناصر. السادات. مبارك) فإن ما في الإضبارات تأجيلاً يفوق بكثير ما على صفحات الصحيفة نشراً.
وحيث إن قارئ الصحيفة لا يدري أي معاناة، وأحياناً أي شقاء يعيشهما الصحافي من أجْل أن يقدِّم للقارئ ما يتوق إلى معرفته، فإنني سأوجز فيما يأتي من السطور نماذج من هذا الشقاء وتلك المعاناة عشتها بصفتي صحافياً مهتماً كثير الاهتمام بالشؤون المصرية في عهد عبد الناصر والسادات ومبارك.
كانت التغطية التي أبعث بها إلى صحيفة «النهار» اللبنانية كموفد ثم مراسل لها من القاهرة، تحت المجهر. وحدث لدى وصولي ذات يوم إلى القاهرة أن أخذني مسؤول أمني تم إبلاغه بوصولي من موظف الجوازات إلى مكتبه ثم طلب إيداعي في قاووش في المطار إلى حين. لا استنطاق ولا أي توضيح عدا الطلب بتسفيري على أول رحلة إلى بيروت. دام هذا شهريْن ومن دون إبداء الدواعي عدا التلميح بأن ما ورد في إحدى رسائلي من معلومات دقيقة تتصل بالصدمة الناشئة عن انتحار المشير عبد الحكيم عامر وبصراع الأجنحة داخل الاتحاد الاشتراكي العربي على خلفية تداعيات هزيمة 5 يونيو 1967 هي السبب في العقاب الذي تقرر إنزاله بشخصي بمجرد مجيئي، كما مرة أو اثنتين كل شهر. ثم بعد التقصي قيل لي إن الرجل القوي زمنذاك اعتبر ما نُشر في شأن الصراع داخل الاتحاد الاشتراكي، بأنه تسريب لي من جانب رئيس تحرير «الأهرام» محمد حسنين هيكل الذي كان أحاطني باهتمام وأجاز لي أن أتردد على «الأهرام» ومن دون تحفظات إزاء التحادث مع زملاء فيها وكذلك الاستفسار منه إذا رأى ذلك مناسباً عن أمور تتصل بالسياسة العامة للدولة. ونتيجة انزعاج الأستاذ هيكل من الذي حدث أمكن رفْع الحظْر على ترددي إلى القاهرة ومواصلة تغطية التطورات المصرية.
ما حدث لي أيام السادات كان مختلفاً، وهذا طبيعي لمن يعرف أسلوب الرئيس السادات عندما يريد الاستهانة بإعلامي يتصور أنه أساء إليه بنشر معلومات، لكن النظام لا يريد نشرها لاعتبارات سياسية، وبصرف النظر عما إذا كان رأى ذلك استناداً إلى تحليل أحد المستشارين. ولقد حدث في ضوء انزعاج - هذا ما قيل لنا - من تغطيتي للتطورات المصرية وبالذات تلك المتصلة ـ«الانتفاضة الشعبية والطلابية» أن تم إدراج اسمي مرة ثانية على قائمة «غير المسموح لهم بدخول الأراضي المصرية». ثم بعدما رفعتُ الأمر في صيغة رسالة عتب وتوضيح إلى وزير الإعلام زمنذاك محمد فائق تم طي صفحة العقاب وأبلغني الوزير ذلك ببرقية وصلت منه إلى «النهار» تحمل العبارة التالية: «السيد فؤاد مطر. جريدة «النهار» بيروت. أرحب بكم في القاهرة في أي وقت. مع تحياتي وتمنياتي الطيبة. محمد فائق».
بعد هذه اللفتة الطيبة من الوزير محمد فائق وافقني ناشر «النهار» ورئيس تحريرها غسان تويني على أن نطلب عن طريق سفير مصر لدى لبنان أحمد لطفي متولي مقابلة الرئيس السادات لتهدئة خواطره. وكان الترحيب سريعاً في ضوء برقية الوزير محمد فائق، وتمت الزيارة. ذهبْنا للقاء السادات في الإسكندرية، حيث كان يرتاح بدلاً من لقائه في استراحة القناطر الخيرية التي تطيب له التأملات فيها والسير على ضفاف نيلها الأكثر هدوءاً. وكنت متصوراً أن الرئيس سيراها أرقى تحية وتطميناً له من أن «النهار» لا تريد سوى الخير لمصر شعباً ورئيساً. جلسنا في صالون مكتب الرئيس ثم دخل علينا بعد دقائق مدير مكتبه إيذاناً بالدخول. ولدى وقوفنا قال «إن الرئيس سيستقبل السيد تويني». معنى ذلك ألا أدخل معه. بعد عشرين دقيقة خرج الرئيس السادات مصطحباً غسان تويني إلى باب المكتب، ثم قال له: الواد ده عامل حلف مع هيكل. الأفضل يلزم حدوده.
تحمَّلتُ بصبر ابن المهنة الذي يؤدي واجبه بكل تجرد. وأبقيتُ إلى حين طي الإضبارات عشرات الأوراق والوثائق التي لم أنشرها. ثم بعدما بات الرئيس السادات في ذمة الله اخترتُ للنشر بعضها ليس على صفحات صحف وإنما في كتاب اخترتُ له تسمية «أنياب الخليفة... وأنامل الجنرال». وفي طيات فصول من الكتاب إضاءة على أسلوب ثاني الرؤساء في العتاب والعقاب.
وحده كان الرئيس مبارك عاتباً بقساوة إنما ليس معاقباً. وحول ذلك إضاءة لاحقة.