جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

فوضى تُخرِّب... وفيروس يفتك... وعالم مرتبك

دقائق معدودة قضيتها مُنصتاً إلى الرئيس دونالد ترمب، عززت مخاوفي من مستقبل آتٍ في أجواء غير مناسبة. مستقبل يأتي مسبوقاً بجحافل من كائنات غير بشرية اخترقت الحدود الفاصلة بين عوالمها وعالمنا، وتمكنت في سرعة رهيبة من احتلال مواقع حيوية في دول عديدة، وتقف الآن ساخرة من مجتمعات بشرية تقتصد في غذائها لتغذي موازنات تسلح ولتمول حروباً. تسخر من قادة دول بعينها بسباقات لا جدوى من ورائها سوى الهيمنة. تسخر من انشغالهم بخلافات حول من يجوز له أن يمتلك أسلحة نووية ومن لا يجوز. تخيلتها بالفعل تنصت باهتمامي نفسه، وربما أشد، وإن بانبهار لا شك فيه، تنصت إلى الرئيس الأميركي وهو مستمر في ممارسة خاصية غريبة عليها، خاصية التهويل. بالأمس فقط كان يؤكد لشعبه أن الفيروس لم يصل إلا نادراً، ثم انتهز الفرصة، فرصة الحديث إلى ملايين المشاهدين المتعطشين لكلمة صدق وقرار مخلص من رئيس الولايات المتحدة، ليلقي باتهام صريح للصين التي تقف وراء مجيء الفيروس إلى أميركا.
وعلى كل حال، لا داعي للجزع، فالمعلومات لديه تشي - حسب قوله - بأنه عابر. أظن أن رئيس الدولة الذي ينتظر العالم رأيه فوراً؛ لأن وراء رأيه إمكانيات الدولة الأعظم وخلاصة علمها وفكرها، وقع خلال نهاره لضغوط من رجال ونساء قطاعات الصحة العامة والكونغرس، وإلا ما عاد إلى الصحافيين من دون اعتذار، ومعه رجال المال والأعمال، ورجال ونساء الصحة العامة، ليقول أمامهم شيئاً مختلفاً. عاد وهو يردد اتهام أوروبا. أوروبا مسؤولة، هي الخصم، أو بدقة أكثر هي الخصم الثاني قبل الصين أو معها. يقول إن أوروبا قصرت مع أميركا والعالم: «تأخرت في إبلاغنا بالغزو الفيروسي». كان يكذب، وكان العالم بأسره يستمع كما استمع إليه قبل ساعات وهو يؤكد أن أميركا بعيدة عن خطر الغزو، وأن لا خوف، وبالتالي لا تعبئة شعبية، ولا استعدادات صحية حكومية، ولا حاجة لتخصيص موارد مالية. هذا التأخير من جانبه ساهم في انتشار الفيروس، ليس فقط في أميركا ولكن أيضاً في عالم لا يزال متشبثاً بأميركا قائداً ومحفزاً ونموذجاً.
ترمب يراهن على أنه لا بديل لأميركا في أي حسابات يجريها الخصوم والحلفاء على حد سواء. يعلم حق العلم أن العالم دخل بالفعل مرحلة الفوضى. نعم يجب أن نعترف للرئيس ترمب بأنه خلال ثلاث سنوات في البيت الأبيض، استطاع أن ينشر بذور الفوضى في أقاليم عديدة، أثمر بعضها والباقي على الطريق. جاء إلى الحكم في دولة قادت العالم منذ نهاية الحرب العالمية، متأثرة في أغلب الوقت بمزيج من القيم والمصالح أقامت على أساسه علاقاتها الخارجية. رفض ترمب أن يكون هذا المزيج أساساً يُقيم عليه سياسته الخارجية. أظن أنه جاء إلى واشنطن مؤمناً بقاعدة مختلفة جذرياً. يؤمن ترمب بأن ما أُطلق عليها أحلاف القيم والعقائد، وأقصد الأحلاف القائمة على فهم مشترك لعدد من القيم وأخلاقيات التعاون والتضامن، لا تفيد كثيراً. تفيد أكثر منها الأحلاف التي تعتمد مصالح مشتركة قصيرة أو طويلة الأجل، وأكثرها أو جميعها يجب أن يكون مرناً وقابلاً للتغيير وإعادة التشكيل، حتى الخصام والاختلاف.
يعتقد - كما صار يعتقد كثير من السياسيين في العالم النامي - أن الترتيبات الثنائية أو الثلاثية المؤقتة بين الدول أكثر فائدة من ترتيبات تحالفية ثابتة أو طويلة الأمد، أو تترجم نفسها في شكل مؤسسات من نوع قوات الإنزال السريع وتشكيلات للأمن الإقليمي. هذا الفكر رأيناه سائداً؛ بل وكان مهيمناً في الفكر الرسمي العربي الذي أسس لمنظومة العمل الإقليمي العربي. صار غير مقبول على سبيل المثال الاستناد إلى قاعدة «العروبة» في تأسيس منظومة دفاع جادة وفاعلة، بينما قامت «الجامعة العربية» وبين أهدافها تجسيد هذه القاعدة، في شكل مؤسسات ومنظومات أمن عسكري واقتصادي عربي. هذا الهدف لم يتحقق بعد، والأمل في أن يتحقق قريباً وهم كبير. السبب في رأيي هو أننا نعيش في زمن يشهد تدهوراً متسارعاً في العلاقات الدولية، أقصد في طبيعتها وأصولها وممارساتها وخضوعها لمبادئ القانون الدولي، وهي المبادئ التي أسست منذ قرون لنشأة الدول والعلاقات بينها.
لم يعد العرب ولا علاقاتهم البينية والخارجية الاستثناء في عالم استقرت أوضاعه، كما كان عليه الحال قبل عقود. كانت أوروبا تزدهر دولاً منفردة وجماعة اقتصادية، وكان وجود المؤسسات الدولية يعزز مكانة النظام الدولي وشرعيته. والصين تنهض في هدوء وسلام وفائدة للجميع. استطاع العالم حينها إقامة منظمة دولية للتجارة، وانطلق يمهد لإنشاء منظمة تحمي الكوكب من الفناء. استطاع أيضاً أن يجبر الولايات المتحدة على إفساح مكان للصين الصاعدة، على أن يحدث ذلك سلمياً وبأقل الضغوط تكلفة وتضحية.
تغيرت أوضاع كثيرة، بعضها توقعناه منذ أن بدأ ينفد صبر دول عديدة، نتيجة انتظار طال أمده لبزوغ نظام دولي يرفض أن يبزغ، أو تمنع بزوغه دول ومصالح قوية. بكل ثقة أستطيع أن أعبر عن اعتقادي بأن العلاقات الدولية بدأت تتدهور في وقت سابق على ترشيح السيد ترمب، بدليل أن كثيرين - وأنا منهم - اعتبروا ظهور ترمب وترشيحه ثم فوزه ودخوله البيت الأبيض، إنما هو الدليل الأقوى على أن نظاماً دولياً جديداً تأجل بزوغه، وأن العالم مقبل على تحولات أعمق من مجرد تغيرات بسيطة أو عميقة في النظام الدولي، وفي أنماط العلاقات بين الدول.
«كورونا» هو الأزمة الكاشفة لسوء اختيار شخص غير صالح لأداء المهمة الكبرى لرئيس في البيت الأبيض، وهي إدارة أزمة بالمواجهة المباشرة، وليس بالهرب منها أو المناورة بالدوران حولها، وهو بالتحديد ما فعله ترمب في إدارة أزمة الفيروس. بدا تعامله معها بإنكار وجود الفيروس، ثم بالتقليل من أهمية وجوده، ثم بالكذب عن إجراءات الاختبار. وصل به الأمر، وهو الحاكم الأعلى للبلد، أن يطلب إبقاء السفينة الحاملة لركاب مشتبه بسلامتهم خارج الميناء، وعدم تفريغ حمولتها حتى لا يُحسب الضحايا - مرضى كانوا أم قتلى - على حساب العدد الكلي للضحايا في الولايات المتحدة، وهو العدد الذي حرص ترمب على إخفائه ثم خفضه. كم من مواطنين أميركيين تسبب هذا الأداء من جانب الرئيس في إصابتهم بالمرض أو ماتوا، ثم ها هو يقف أمام مكبرات الصوت يتهم أوروبا التي انفتحت على الصين فنقلت الفيروس إلى الغرب، والصين التي تأخرت في الإعلان عن وجود الفيروس.
الحزب الشيوعي الصيني مسؤول؛ لأنه بالغ في الاهتمام بسباق القمة ومكانة القوة الرخوة التي تحققت للصين بفضل مبادرة «الحزام والطريق» على حساب المواجهة العاجلة مع الفيروس. الرئيس الأميركي مسؤول لجهله بإدارة الأزمات، وتخبط علاقاته الدولية، وأسلوبه الديكتاتوري في إدارة العمل بين مستشاريه بالبيت الـبيض. وأوروبا مسؤولة، وبخاصة السيدة ميركل التي تركت انسحابها الصامت من دورها الأوروبي يعمق الخلافات داخل أوروبا، ويحرم إيطاليا من حقها من التضامن الأوروبي. الرئيس بوتين مسؤول مع أجهزته التي تعمل ليل نهار على إفساد الحياة السياسية في دول الغرب، وفي غيرها، وبين بعضها والبعض الآخر.
انتصر الفيروس في الجولة الأولى من حربه العالمية ضد عالم البشر. من حسن حظه أنه وجد الخصم مرتبكاً ومنفرطاً ومن دون قيادة. انتصر من دون قتال، ومن دون حاجة إلى أسلحة نووية وفضائية وميليشيات عسكرية وإرهاب غير منظم. جحافل الفيروس حرة وطليقة، بينما راح ملايين البشر يحولون بأنفسهم المدن ومساكنهم لتصبح معتقلات ذاتية تحميهم من عدو لا يُرى ولا يرحم.