جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

«منبع» الأزمة... وحلول «المصب» في سد النهضة

لو أن الإمبراطور الإثيوبي هيلا سلاسي لا يزال على قيد الحياة، لكان له موقف آخر حول سد النهضة. التاريخ يشهد على إيمانه بقيمة وعمق الروابط بين مصر وإثيوبيا، عبر عنها في ملفات عديدة أهمها، وحدة الكنيسة المصرية - الإثيوبية. الميراث عميق، والمصالح كثيرة، والعلاقات متشابكة. عواصف أحفاد الإمبراطور تحتاج إلى المراجعة، وإعادة النظر، فالرؤية الضيقة لن تبني أمماً مزدهرة.
في الأوقات الضبابية تبحث عن بصيص من الأمل في عيون المستقبل.
التعنت الإثيوبي في التفاوض بشأن ملء وتشغيل سد النهضة لا يتسق مع الروح التاريخية التي تربط القاهرة بأديس أبابا.
التشدد الإثيوبي غير المدروس في إدارة مثل هذه الملفات، قطعاً ستكون نتائجه ليست في صالح الشعوب. التنمية لا تتعارض مع حق الشعوب في الحياة. نهر النيل بالنسبة لمصر قضية وجود. مصر دائما كانت مع حق إثيوبيا في التنمية، لكنها أيضا لم ولن تفرط في حقوقها المائية. أبدت الدولة المصرية حسن النية، والإدارة السياسية الخالصة في جميع جولات التفاوض. الرئيس عبد الفتاح السيسي استطاع وضع أسس جديدة للعلاقات المصرية - الإثيوبية، تهدف إلى تحقيق التعاون والفائدة للبلدين.
الوثائق والمستندات شاهدة على ذلك، عندما اتفق الرئيس السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ماريام ديسالين، بعد تولي الرئيس السيسي الرئاسة بأسابيع قليلة، على مجموعة من المبادئ في مقدمتها: اعتبار الحوار والتعاون أساسا لتحقيق المكاسب المشتركة، وتجنب الإضرار ببعضهما، وضرورة احترام القانون وجميع المواثيق الدولية المتعلقة بالمياه، وأن تلتزم الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه، وتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات الفنية خلال مختلف مراحل مشروع السد، وأن تلتزم الدولتان بحسن النية في إطار هذا التوافق، وأن يعملا معا بروح من التعاون والنيات الصادقة، في مقابل التزام الحكومة المصرية بالحوار البناء مع إثيوبيا، وأن تأخذ احتياجات الشعب الإثيوبي وتطلعاته في التنمية بعين الاعتبار، وهذا ما تم التأكيد عليه في اتفاق المبادئ بتاريخ 23 مارس (آذار) 2015. السنوات الخمس الماضية شهدت جولات عديدة، ونتائج متباينة، ومراوغات، ومناورات لا تتفق وروح المبادئ. أظهرت إثيوبيا تعهدات، وأضمرت عكسها. وافقت على تعيين المكاتب الاستشارية الفنية، ورفضت أولى توصياتها. علامات استفهام. لكنها مرت عابرة أمام رغبة الجانب المصري في التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحمي ويحافظ على حقوق الشعبين. ذهب ديسالين، وجاء آبي أحمد رئيسا للوزراء. توسم الجميع فيه خيرا. لكن يبدو أن التوجه الإثيوبي لم يختلف. ما الذي يريده الإثيوبيون من هذا الإصرار والتعنت تجاه حق أصيل للشعب المصري؟
ولماذا تتغافل السلطات الإثيوبية الحقوق القانونية والمواثيق الدولية لحق مصر في المياه؟ وهل هناك أطراف أخرى صاحبة مصلحة تدفع في اتجاه المماطلة الإثيوبية وعدم الوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين؟
لم تتوقف علامات الاستفهام أمام هذا المشهد الإثيوبي الغامض. فالعالم لا يزال يحتفظ بالوثائق والاتفاقيات التي تؤكد حصة مصر من المياه، ويكفي الإشارة هنا إلى اتفاقية عام 1929، التي أعطت مصر 55.5 مليار متر مكعب من المياه، وحق «الفيتو» في الاعتراض على أي عمل يتم إنشاؤه على النهر، أو أي من روافده، كما نصت على تقديم دول حوض النيل لجميع التسهيلات لمصر من أجل إقامة دراسات وبحوث مائية في منطقة حوض النيل والسودان لزيادة حصتها من مياه النهر، وهو ما أكدته أيضا اتفاقية عام 1959، التي تم توقيعها بالقاهرة.
إذن المفاوض الإثيوبي الذي ينطلق من تجاهل المواثيق والاتفاقيات الدولية، لم يستذكر جيدا دروس التاريخ. فإذا كان القدر الجغرافي جعل مصر دولة مصب، فإن قدرها أيضا الحفاظ على حقوقها المائية.
الواقع يقول إن القاهرة لن تطلب أكثر من حقوقها، وليست مسؤولة عن أن هناك أطرافا أخرى تهمس في أذن المفاوض الإثيوبي، من أجل وضع السدود أمام الجانب المصري.
ضاق الحال بأوراق التفاوض، لا بد من طرف حكيم وقوي ووازن، يقف على مسافة واحدة من حقوق الجميع. صارت العودة إجبارية للمادة العاشرة من اتفاق المبادئ. هنا جاء دور الولايات المتحدة، والبنك الدولي الذي يشكل المرجعية في مثل هذه الخلافات لما لديه من خبرة فنية، وقانونية تتعلق بالسدود. الدول الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا، منحت البنك الدولي وأميركا الثقة في صياغة الاتفاق النهائي، واتفق جميع الأطراف على موعد للتوقيع النهائي. ذهب الوفدان المصري والسوداني إلى المحطة المرتقبة «واشنطن». غاب الجانب الإثيوبي دون مبرر. ازدادت علامات الاستفهام في طرح نفسها. لم ينقطع الأمل. البيان الأميركي حذر إثيوبيا من الخطوات أحادية الجانب، وطلب عدم البدء في ملء الخزان قبل التوافق مع دولتي المصب. في المقابل لم تبد إثيوبيا أي مرونة. سقطت مساحيق التجميل الدبلوماسية. كشفت أديس أبابا القناع، وأعلنت استمرارها في البناء، وبدء المرحلة الأولى من خلال ملء الخزان خلال أربعة أشهر.
هنا لا بد من وقفة. المطبات تعيق خطوات الحل. الدولة المصرية تواصل نهجها في الحفاظ على حقوقها التي كفلها لها القانون. العبور فوق أزمة سد النهضة يحتاج إلى مسارات عديدة في مقدمتها: العودة إلى تفعيل بعض بنود اتفاق المبادئ، مثل المادة العاشرة التي تسمح بترفيع مستوى التفاوض إلى درجة زعماء الدول الثلاث، وربما الاحتكام إلى طرف رابع. أيضا الاستعانة بدول أخرى، مثل الصين وروسيا اللتين أبدتا استعدادهما للتدخل مع الجانب الإثيوبي للوصول إلى حلول عادلة للطرفين، هذا فضلا عن ضرورة التزام الجانب الإثيوبي بالتوقيع على الوثيقة التي صاغها البنك الدولي والولايات المتحدة، لا سيما أن هذا الوثيقة تتضمن كل المقترحات والأفكار التي طرحتها إثيوبيا خلال مراحل التفاوض.
وأخيرا أقول: إذا كانت هذه بعض مراحل التفاوض ومسارات الخروج من الأزمة، فإنني أستدعي مقولة العالم المصري الدكتور جمال حمدان عن نهر النيل: «مثلما هو نهر متفرد بين الأنهار، فإن مصر متفردة في حوضه أيضا».