إميل أمين
كاتب مصري
TT

بايدن ـ ساندرز... وطريق المتنورين الجدد

ما الذي جرى نهار الثلاثاء الكبير الماضي في الداخل الأميركي؟
السؤال يقصد به ولا شك نتائج الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأميركي، والتي أثارت ولا تزال العديد من علامات الاستفهام، وربما تحتاج منا إلى تسجيل بعض الملاحظات الأولية في محاولة لفهم أبعاد المشهد الانتخابي الأولي بالنسبة للديمقراطيين، في مسيرتهم المنشودة نحو استعادة البيت الأبيض من الجمهوريين.
بداية، يبدو أن حملة نائب الرئيس الأسبق جوزيف بادين قد تلقت زخماً كبيراً، فبعد أن كان بيرني ساندرز متقدماً، جاء بادين ليحقق نتائج جيدة في نحو ثماني ولايات. والمثير هنا أن الأميركيين الديمقراطيين الذين صوّتوا لبايدن، بدا وكأنهم في طريقهم للاقتراع ضد ساندرز وفي إطار من العداء الآيديولوجي، وليس المفاضلة بين من الأفضل لصالح الحزب، ومن هو القادر على إزاحة الرئيس ترمب من البيت الأبيض، كي لا يطول به المقام لأربع سنوات آخر.
الملاحظات الأولية لانتخابات الثلاثاء الكبير على صعيد الحزب الديمقراطي، يكاد المرء يشعر بأنها رجع صدى لما جرى بين ساندرز وهيلاري كلينتون عام 2016؛ فالانقسام حاد، والتشظي واقع ملموس.
تقدم بايدن في جزء كبير منه ربما يعود إلى رص الصفوف من قبل بعض الديمقراطيين الذين انسحبوا من ميدان الوغى الانتخابي، من أمثال بوتيدجيج، وكلو بوشار، إلى جانب بايدن، ورفض ساندرز لأسباب مؤدلجة أول الأمر وآخره.
غير أن السباق بين الديمقراطيين لم تجرِ به المقادير على هذا النحو من التبسيط؛ إذ يبدو أن هناك أيادي خفية نسقت ودبّرت انتصارات بايدن وإخفاقات ساندرز، والعهدة هنا على الراوي مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية الرصينة، التي أشارت إلى أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يكاد يكون العقل المخطط للحزب من وراء الستار، وأنه بعد فوز بايدن في ساوث كارولينا السبت الماضي، أقنع كلاً من بيت بوتيدجيدج وكلو بوشار بالانسحاب، وتوجيه الدعم لبايدن.
ولعل الأكثر إثارة ظهور تعبير «المتنورين الجدد»، في سياق هذه الانتخابات؛ إذ اتهم ساندرز هذه المجموعة التي تعرف أيضاً باسم «سياسيو المؤسسات»، وقوامها الرئيسي نحو 60 مليارديراً يموّلون حملة بايدن بأنهم السبب في إظهار صورته على هذا النحو من السلبية في عيون الأميركيين.
إشكالية ساندرز أن اسمه بات مرتبطاً بكلمة سيئة السمعة في عالم الرأسمالية... الاشتراكية... فما يذهب إليه من أفكار أقرب ما تكون إلى اليسار تشهد نمواً كبيراً في أوساط الشباب الأميركي؛ الأمر الذي يمكن أن يزلزل أساسات النيوليبرالية الاقتصادية القائم عليها الاقتصاد الأميركي.
لا تصب توجهات ساندرز الرافض للحروب الأميركية حول العالم في صالح إحدى أكبر القوى المشكلة للحياة السياسية في الداخل الأميركي، المجمع الصناعي العسكري، بأطرافه الثلاثية، أصحاب المصانع الحربية، وجنرالات البنتاغون، وأعضاء الكونغرس؛ ولهذا لا أحد منهم يريد لساندرز الاقتراب من حافة منافسة ترمب.
فوز بايدن المفاجئ، والذي يحتاج إلى مزيد من الوقت لتحليل أسبابه في ضوء الأرقام، والشرائح الاجتماعية، جاء بطعم عرقي يدعو الأميركيين للخوف من فكرة المحاصصة على أسس إثنية، فقد صوّت له الأميركيون من أصل أفريقي، وكذا كبار السن الذين يحملون ذكريات سيئة لفترة تقسيم العالم إلى قسمين الـ«ناتو»، و«وارسو»، والأخير يعني الشيوعية وفي معيتها الاشتراكية، ثم التيار الديمقراطي المعتدل؛ ما يجعل مستقبل الديمقراطية في داخل البلاد في وضع حرج، ولا نغالي إن قلنا في وضع خطر.
حين نقول إن المعركة بين الديمقراطيين وبعضهم بعضاً سوف تستمر حتى شهر يوليو (تموز) المقبل موعد الاختيار النهائي للجواد الديمقراطي الرابح الذي سيقارع الرئيس ترمب، فإن ذلك ينطلق من الأداء الجيد جداً لساندرز في ولاية كاليفورنيا ذات الوزن الكبير، حيث يمثل عدد نوابها البالغ 415 نائباً أكبر كتلة تصويتية في الولايات المختلفة، ومن يفوز بها عادة ما تكون حظوظه طيبة بشكل أو بآخر في الحصول على ترشيح الحزب.
فاز ساندرز في كاليفورنيا بنسبة 33 في المائة، في مقابل 24 في المائة لبايدن؛ الأمر الذي يعني أن الرجل بالفعل يتمتع بشعبية حقيقية كبيرة في الشارع الأميركي، ولا سيما بين صفوف الديمقراطيين، حتى وإن تعرض لسلسلة من الهجومات الإعلامية المكثفة، ربما أدت بالفعل إلى خسارته في عدد من الولايات المهمة مثل تكساس وكارولينا الشمالية، ولا يبدو أن النسق الإعلامي الهجومي ضد ساندرز سوف يتوقف في القريب.
هناك جزئية أكثر إثارة في أحداث الثلاثاء الكبير موصولة بمسألة قوة الأموال في شراء الأصوات؛ إذ جاءت المفاجأة متمثلة في النتيجة الهزيلة التي حصدها عمدة نيويورك الأسبق مايك بلومبرغ، والذي تعرض لسخرية وتقريع لاذعين من ترمب، بعد أن أنفق قرابة 700 مليون دولار، على الحملة الأولية، ولم يصب نجاحاً بعينه؛ ما أدى إلى انسحابه يوم الأربعاء، وحتى صيغة الانسحاب تعزز فكرة التآمر ضد ساندرز، فقد أشار إلى أنه قبل ثلاثة أشهر دخل السباق ليهزم ترمب، والآن يغادره للسبب نفسه، ومضيفاً: «هزيمة ترمب تتطلب منا أن نتوحد خلف مرشح يمكن أن يفعلها»، ومعلناً دعمه للمرشح جو بايدن.
استحضار روح «المتنورين الجدد»، أمر يعود بنا إلى الدولة الأميركية العميقة التي قامت أميركا على أساساتها، ولا سيما من عند الجنرال ألبرت بايك، والقس اليسوعي المشلوح وايز هاوبت، وهذه قصة أخرى.
الخلاصة... أميركا على مفترق طرق خطير في 2020.