زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

المأزق بين حقوق الإنسان واحترام الأديان

مما يثير الدهشة أنه في الوقت الذي تتجه فيه أصوات الاعتدال في العالم إلى تعزيز التعايش واحترام خصوصية الأديان ومعتنقيها، تُقدم بعض الحكومات والبرلمانات على اتخاذ قرارات وتمرير تشريعات خارج محيطها، تمس معتقدات شرائح وفئات أخرى في العالم، دونما اعتبار لردة فعلهم أو احترام كرامتهم، وكأنها ترفض مبدأ التعايش لتكرس ما قد سبق أن طرح قبل أكثر منذ عقدين من نظريات حول صدام الثقافات وانتصار القيم الليبرالية، كـ«صراع الحضارات» لصموئيل هنتنغتون، و«نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما.
نذكر هنا قانوناً مثيراً للجدل، اسمه «قانون فرانك وولف للحرية الدينية الدولية» كمثال حي على عمق الهوة بين الغرب والإسلام، وسبق أن أقره أعضاء الكونغرس الأميركي بعدما وقعه الرئيس باراك أوباما. القانون «يجبر الدول على السماح للأفراد بالحريات الدينية والإلحاد، وإنشاء دور العبادة، وعدم معاقبة الأفراد بسبب تغيير دينهم أو آرائهم الدينية».
غير أن هذا القانون في نظري يعكس إشكالية سوء الفهم والتواصل ما بين الغرب والإسلام. ورغم محاولات التقريب، تخرج بعص الاجتهادات دون فهم عميق للأبعاد الدينية والثقافية والاجتماعية، فتصطدم بالواقع ويحدث الخلاف، ويتعمق الشرخ.
القانون الذي تقدم به عضو الكونغرس السابق عن ولاية فيرجينيا، فرانك وولف، ويُعد تعديلاً لقانون الحريات الدينية لعام 1998، يطلب من الإدارة الأميركية تحديد ومعاقبة كل الحكومات الأجنبية التي تنتهك الحريات الدينية وفق تصورهم؛ حيث سيتم وضع «قائمة مراقبة خاصة» من الدرجة الثانية، للدول التي تعتبرها الإدارة الأميركية مخالفة للحريات الدينية. كما أنه وبحسب هذا القانون فإن «أي دولة تضاف إلى قائمة المراقبة في تقريرين متتاليين سنويين لوزارة الخارجية، يجب وضعها على قائمة الدول التي تشكل تهديداً خاصاً». ومما يدل على جدية الموضوع اشترط الكونغرس أنه «يجب أن يُعزز التقرير السنوي للرئيس، الحريات الدينية الدولية، باعتبارها جزءاً من السياسة الخارجية ومن أولويات الأمن القومي».
هذه مبادرة يعتقد من قام بها أنها تعزز حماية حقوق الإنسان، في حين شأن أطرافاً عديدة أخرى تراها خطوة استفزازية تعصبية هدفها إثارة الكراهية والتفرقة، وإبقاء هذا العالم عرضة لصراعات عرقية ودينية، فضلاً عن وجود جوانب فيها تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان.
ازدراء الأديان والتطاول على كل ما هو ديني أمر خطير؛ لكن أيضاً فرض قوانين وعقوبات على شعوب محافظة لها معتقدات محددة بدعوى حرية الأديان، هو أمر لا يقل خطورة إن لم يزد عليه، وذلك بفتح الباب لمن يريد أن يغير دينه أو حتى أن يصبح ملحداً، وله الحق أن يجاهر بذلك علناً. هذه الممارسات في الدول العربية والإسلامية ستواجه بموجة من الرفض والاستياء والتنديد. العقلاء والمحايدون يرددون أن تبعات مثل هذه القوانين التي في ظاهرها تدعو لحماية حقوق الإنسان، تفتح في أعماقها الباب للمواجهة والتحريض والفتنة بين الشعوب. صحيح أن الجميع متفق على ضرورة الحريات، ولكن الخلاف يكمن تحديداً في المدى الذي يمكن الوصول إليه، وفي الحدود التي يُمنع تجاوزها.
حرية الرأي مثلاً من صميم الحقوق، وتشدد عليها المنظمات الحقوقية، بدليل تضمينها إياها في الاتفاقات والمواثيق الدولية. ولكنها مقيدة حتى لا تصل للإضرار بالآخرين، فحرية الرأي تبقى نسبية، ويفترض تقييدها في مسائل معينة.
نتساءل هنا: ماذا ستكون عليه الصورة فيما لو قام أحد المسلمين بإنكاره للهولوكوست؟ أو قام آخر بإحراق الإنجيل أو التوراة؟ مع رفضنا القاطع لهكذا تصرفات، فما هي ردود الفعل الغربية حيالها: هل ستعتبرها تندرج ضمن نطاق حرية التعبير؟ أم تُصنفها جريمة يُعاقَب عليها؟
المجاهر بإلحاده في مجتمع مسلم محافظ على سبيل المثال هو لا يمارس حقاً، ولا يمت بصلة لحرية الأديان؛ بل هو سلوك استفزازي قد يقود لأمور قد لا تحمد عقباها، في حين أن الغرب يراها حرية شخصية وحقاً له، وهنا يكمن الفرق، ما يعني وجود إشكالية فكرية وثقافية بين الغرب والإسلام.
جميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تؤكد احترام حق حرية التعبير، إلا أن الفقرة الثالثة من الفصل التاسع عشر من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، قننت هذا الحق بإشارتها إلى أن «حرية التعبير يجب ألا تمس حقوق الآخرين والنظام العام والنظام الداخلي للدول»، بالإضافة إلى المادة 20 من العهد ذاته التي تنص على تجريم «أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف».
هذه القوانين لا تحمي حقوق الإنسان كما أتصور؛ بل تصب الزيت على النار، فتدفع باتجاه تعميق الخلاف والصدام والتعصب الديني، ولذا فدور العقلاء في العالمين الإسلامي والغربي مواجهة مثل هذه المبادرات الاستفزازية، لقطع الطريق على من يُذكي الصراع ما بين الإسلام والغرب.