سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

التعليم الأخطبوطي

«رب ضارة نافعة»، ومن قلب الوباء تولد الابتكارات. خلال أسبوعين فقط، ومن دون الخروج من المنازل، عقدت الصين سلسلة من المؤتمرات على الإنترنت، وأنجزت المنصات، وأطلقت أكبر عملية تعليم رقمية عرفتها البشرية حتى اللحظة، جمعت أكثر من 200 مليون تلميذ، بمقدورهم متابعة دروسهم من بيوتهم، وبكفاءة عالية. خبراء في التربية وصفوا التجربة بأنها «مذهلة»، و«لا سابق لها». الفرادة أيضاً هي في التنسيق الأخطبوطي بين هيئات ووزارات وأساتذة وطلاب، دون أن يلتقي أحدهم الآخر. تقوية للشبكة، تدريب للمعلمين، تحديد للبرامج، تقييم للمواد المطلوبة وساعات التدريس، ولا تنس التوجيهات الصحية لمكافحة كورونا. كل شيء وضع ليجعل الجالس خلف شاشته، يتلقى المعلومات ويسير في العام الدراسي، وكأنما لا وباء في الخارج.
الإنجاز الصيني سيفتح النقاش حول التعليم الرقمي على مصراعيه، رغم المقاومة الشديدة له في بقاع كثيرة. سيتبين أنه ليس خياراً تنتهجه الدول أو تذهب إلى غيره. من فرنسا إلى إيطاليا ولبنان والإمارات الجميع يتحدث اليوم عن ضرورة متابعة التعليم في المنازل بسبب كورونا، وغداً ستكون محن أخرى، لكن أي تعليم؟ ولماذا يبقى حكراً على المحظوظين؟ أميركا مثلاً، رقمنت تعليمها، ولا مشكلة لديها في الأزمات. مع انقضاء الوباء، ستكون العيون قد فتحت على نمط تربوي جديد، يعود به التلامذة إلى صفوفهم، في دول أنضجتها الأزمة، وأمدتها بخبرة استثنائية. المنطقة العربية ليست من بين هؤلاء، من الصعب أن تكون، وهي لا تزال مغلولة إلى التلقين. العادات القديمة آسرة ومطمئنة. واللجوء إلى التكنولوجيا، بقي في كثير من المرات، مجرد انتقال شكلي من الورق إلى الشاشة، تغيير في الأدوات دون تحول عميق في العملية التعليمية نفسها.
الرقمنة التعليمية تعني أكثر من تزويد كل تلميذ بلوح ذكي. هي أيضاً التطبيقات التحفيزية، التي تتيح التفاعل، ومشاهدة الصور والأفلام، وتصحيح الإملاء للطلاب، وتقييم امتحاناتهم، وقياس تطور مكتسباتهم ومهاراتهم آلياً. هي تحول للأستاذ من آمر للفريق إلى قائد أوركسترا في الصف، جل ما يفعله هو أن يحدد مهمة كل مجموعة أو تلميذ منفرد، ويترك لهم مهمة الإبحار، ويتدخل حين تُطلب منه المساعدة. هي بناء مواطن يعرف ما يريد، وكيف يبحث عن الإجابة ويقارنها بغيرها، ليصل إلى الأكثر إقناعاً.
في الدول الاسكندنافية التي تتقدم أوروبا، المحور في الصف هو المعلومة وليس المعلم كما كان الحال أيام الكتاتيب. الأساس هو الرد على فضول الطفل وأسئلته، وليس فرض منهج عليه أن يبتلعه خلال العام. تحاول فرنسا الخروج من شرنقتها وتتعثر. بالطبع تسبقنا بلاد موليير سنوات ضوئية. مع ذلك الصعوبات هناك، قد تفيد في فهم ما سيواجهنا، لحظة نقرر تغيير جلودنا التربوية التي حشرنا أنفسنا فيها دهراً.
يواجه الفرنسيون صعوبات مالية جمّة لتبديل الأدوات العتيقة، لكن الأهم هي المعارضة داخل الكادر التربوي نفسه، وعدم القناعة بأن الشاشة تستطيع أن تحل مكان الورق. هناك مقاومة دور النشر، المستفيد الأول من المداخيل الباهظة. والأصعب هو المعدات التكنولوجية نفسها وتطبيقاتها الأذكى من الذكية التي يجب أن تنطق بالفرنسية، وتكون صناعة وطنية، لا دخيلة من إحدى الشركات الأميركية الكبرى. التعليم أمن قومي، وشأن وطني.
يكتشف الفرنسيون لوبي «ميكروسوفت» الذي يحاول اختراق سوقهم التعليمية، ويجدون في ذلك فضيحة تتوجب جبهة مقاومة عريضة. الطفل الفرنسي تعليمه يجب أن يكون صناعة فرنسية خالصة، وبمعدات محلية.
في بلادنا نستورد الكتاب والمنهج وربما الأستاذ ولغته أيضاً وتقاليده كذلك. الأصالة في التعليم ليست من بين همومنا. لدينا كثير مما يحتل أولوياتنا. لكن الوقت لن يطول قبل أن نصل إلى قناعة مفادها أن لا مستقبل من دون تعليم تفاعلي وطني، وباللغة العربية تحديداً. هذا سيفتح الباب واسعاً أمام تعليم لغات أجنبية عدة، لا لغة واحدة. التجربة مشجعة، فالتواصل المباشر مع الأستاذ الذي يمكن يعطي دروسه وهو في بلده الأم، ويجعل التلامذة على تواصل مع أقرانهم في دول أخرى، هذا هو السبيل الأسرع لتعليم لغات الغير من ينابيعها.
أكثر من 100 مليار دولار حجم سوق المعدات التعليمية التكنولوجية. السوق العربية لا تزال بكراً. لحظة تتخذ وزارات عربية، خاصة إذا كان القرار شاملاً لعدة دول، الخطوة الكبرى للذهاب نحو التعليم التفاعلي بالعربية، ستجد المستثمرين المحليين ينتظرونها. نقص الأموال ليس سبباً للتقاعس. مئات الدولارات يدفعها كل تلميذ سنوياً، ثمناً للكتب والأقلام والدفاتر، هذا يمكن أن يوظف في المعدات الذكية. ما نحتاجه بالفعل، هو تضامن بين أهل الضاد، تفاهمات تربوية بينية على نموذج تعليمي حديث يشتركون في تمويله وتطويره، كل بحسب ما يملك وما يقدر. السياسة تبث سمومها في أنفاسنا. لنحرر أطفالنا من خلافاتنا العابرة. بمقدورنا أن نتناحر على أي شيء، أن نتقاذف التهم قدر ما نشاء، على أن نحيد المعرفة جانباً، أن نجنب أطفالنا تجرّع مرّ الكأس الذي جربناه. تمكنت كارولينا الشمالية، أكثر الولايات الأميركية فقراً وفشلاً في مدارسها، من التغلب على عاهاتها، بتبني التعليم التفاعلي الماهر. صارت مشتهى الأهالي الراغبين في رؤية تفوق أبنائهم. نحن أمة فقيرة، وقريباً قد نقترب من العدم. الهوة تتسع بشكل مخيف بين من يتعلم ومن يتلقن، ولا خلاص لنا من الجهل والعوز ورؤية مزيد من أنهار الدماء المريعة، بغير تحرير أطفالنا بدءاً من الحضانات، من عبودية لا تزال تتحكم بكثير من أنظمتنا التعليمية الجائرة. لا أريد أن أصدق، ونحن في هذا الزمن الذي صارت فيه الآلات تحلل وتستنتج، أن طلابي في الجامعة يسألونني بعد كل محاضرة، إن كان ما شرحته هو للحفظ أم للفهم؟ هذا سؤال سوريالي، يضرب على العصب، ويستدعي الجنون!