تتجه الأنظار إلى القمة المرتقبة اليوم (الخميس)، في موسكو، بين الرئيسين بوتين وإردوغان، وبصفة خاصة إلى من سيستطيع تحقيق أكبر قدر من النجاح بالمقارنة بالآخر.
في تقديري أنَّه سيكون الرئيس بوتين، ليس فقط لأنَّه في الموقف الأقوى، وإنَّما لأنَّ الرئيس إردوغان لم يبقَ لديه إلا عدد قليل من الحلفاء والأصدقاء الذين لن يتعدَّى دعمهم له، سوى إصدار البيانات وتقديم التعاون الاستخباراتي، وحتى ذلك ليس بهدف إحداث تغيير نوعي على الأوضاع في إدلب، وإنما لمجرد تعقيد الأمور أمام دمشق وموسكو، إضافةً إلى ذلك لم تعد أحلام إردوغان التوسعية العثمانية الجديدة في الشرق الأوسط تسيطر على مخيلة غالبية الشعب التركي، خصوصاً بعد تلاشي هدف فرض نظام في دمشق.
كذلك يبدو أن إردوغان استنفد مناوراته لتدعيم موقفه من خلال التلاعب بكلٍّ روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي لم يترك أمامه سوى خيار التصعيد العسكري في سوريا، مع الحرص على عدم استعداء روسيا. وفي ذات الوقت، أخفق إردوغان في الحصول على دعم ملموس من أطراف أخرى مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وكذلك من كلٍّ من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، عندما دعا إلى قمة رباعية (تركية - روسية - ألمانية - فرنسية)، الأمر الذي رفضته موسكو وأصرت في المقابل على أن يأتي بمفرده إلى موسكو.
أمام هذا الموقف، بعثت روسيا برسائل إلى تركيا تشير إلى أن صبرها أوشك أن ينفد، فأظهرت تأييدها السياسي والعسكري للحكومة السورية بشكل واضح وعملي، وكان من ضمن ذلك سماحها بعودة ظهور وكلاء إيران في مناطق العمليات العسكرية على الحدود بين محافظتي حلب وإدلب، الأمر الذي يفتح إمكانية مواجهة بين تركيا وإيران.
هذا وتستمر روسيا في سياستها الثابتة في الموازنة بين كل من دمشق وأنقرة، موضحة لكليهما أنَّ أياً منها لن يستطيع تحقيق كل أهدافه، مع طرح حلول في شكل ترتيبات مؤقتة مثل مناطق خفض التصعيد التي اضطرت كلتا الدولتين قبولها على مضض. ولا شك أن هذه السياسة خدمت المصالح الروسية منذ عام 2016، عندما نجحت موسكو في عقد صفقة مع تركيا سمحت للحكومة السورية بأن تعيدَ سيطرتها على الجزء الشرقي من مدينة حلب.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ موسكو تؤكد دوماً أنَّ اتفاقية أضنة الموقَّعة بين سوريا وتركيا عام 1998 هي السبيل الأمثل لضمان المصالح الأمنية لكلٍّ من دمشق وأنقرة. وأعتقد أنه في نهاية الأمر سيتم التوصل إلى نسخة معدلة من هذا الاتفاق.
لكن إلى أن يتحقق ذلك فثمة حاجة إلى ترتيبات مؤقتة تحقق الأهداف قصيرة الأجل لكلٍّ من دمشق وأنقرة، وفي الوقت نفسه تخدم المصالح الاستراتيجية لروسيا. ومن أجل التوصل إلى تصور بشأن تلك الترتيبات، يتعيَّن تحديد الأهداف قصيرة وطويلة الأجل لكلٍّ من موسكو ودمشق وأنقرة. وهنا يجدر التنويه إلى أن إيران ليست طرفاً أساسياً في هذا السياق على الرغم من أنها عنصر مؤثر على الساحة السورية.
أما فيما يخص الأهداف الاستراتيجية لتركيا في سوريا، فأصبحت الآن تنحصر في أمرين: حماية حدودها الممتدة مع سوريا ممّا تعدّه تهديداً كردياً، وأن يكون لها دور في أي تسوية سياسية.
أما الأهداف قصيرة الأجل، فتتمحور حول منع الجيش السوري من الوصول إلى حدودها للحيلولة دون تدفق أعداد إضافية من اللاجئين إلى داخل الأراضي التركية، وحماية حلفائها من الجماعات السورية المسلحة التي ستحتاج إليها لضمان استتباب الأمن في منطقة الحدود. وهذا ما يفسر حرص أنقرة على إقرار ترتيبات طويلة الأمد بالاتفاق مع موسكو، تسمح لها بالتدخل العسكري في سوريا.
أما الحكومة السورية فهدفها الاستراتيجي الذي لن تحيد عنه، هو ممارسة كامل سيادتها على الأراضي السورية كافة، ولذلك لن تقبل بأي ترتيب طويل الأجل يقنن الوجود التركي داخل الأراضي السورية. مع ذلك فليس من المستبعد أن تقبل دمشق بترتيب مؤقت في إدلب، مثلما هو الحال ضمنياً في شمال شرقي البلاد، ولكن على أن يحقق الأهداف الملحّة لدمشق في السيطرة على الطريقين الاستراتيجيين M4 وM5 والمنطقة المتاخمة لهما، من أجل تنشيط الدورة الاقتصادية وتأمين مدينتي حلب واللاذقية من هجمات الجماعات المسلحة، الذي كان أحد أهداف دمشق من قبول الاتفاق الموقّع في سبتمبر (أيلول) 2018 بين الرئيسين التركي والروسي بإنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب.
في ضوء ما تقدم، فإنه على موسكو العمل على الموازنة بين الأهداف قصيرة الأجل لكل من دمشق وأنقرة، في إطار تحقيق مصالحها الاستراتيجية التي تتمثل في: أن تظلَّ أهم قوى خارجية فاعلة في سوريا، الأمر الذي من شأنه دعم مكانتها في المنطقة، والحفاظ على وجودها العسكري في قاعدة «حميميم» الجوية وقاعدة «طرطوس» البحرية، وذلك إلى جانب تعزيز علاقاتها مع تركيا.
وفي إطار تحقيق تلك المصالح، تسعى روسيا نحو تحقيق أهداف قصيرة الأمد، تتمثل في الحفاظ على الدولة السورية والعمل على إيجاد حل سياسي يحظى بموافقة دولية، وفي الوقت ذاته حماية قاعدتها الجوية في «حميميم» التي لا تزال عرضة لهجمات من طائرات مسيّرة تنطلق من إدلب إلى جانب مكافحة الإرهاب الدولي، من خلال القضاء على المقاتلين الوافدين من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
أما فيما يخص الاتفاق الجديد حول الترتيبات المؤقتة في إدلب، فمن الممكن أن يأخذ الشكل الآتي: وقف إطلاق نار مع سيطرة الحكومة السورية على طريقي M4 وM5، ولكن دون دخول مدينة إدلب، وإنشاء منطقة آمنة لحماية اللاجئين على طول الحدود السورية - التركية في إدلب تمتد إلى مدينة إدلب مع إيجاد ترتيبات تسمح باستمرار العمليات ضد الإرهابيين، وأخيراً التوصل في فترة لاحقة إلى تفاهم لتحديث اتفاقية أضنة.
ولا شك أن التوصل إلى اتفاقية أضنة معدلة يأخذ في الاعتبار المصالح الأمنية لكل من تركيا وسوريا بشكل متوازن، ويتعامل مع البعد الكردي للأزمة، من شأنه تعزيز مكانة روسيا كقوة كبرى ونافذة في الشرق الأوسط.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»