سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

حرب اللغات

ليس أعزّ على المرء من لغته، ولا أغلى من كلمات الأم الأولى التي بها هدهدته، ومنحته الدفء والطمأنينة وكينونته العاطفية. ومع ذلك تنبه الألسنيون متأخرين عشرات السنين، إلى أن واحدة من أشرس الحروب البشرية التي تشنها الدول النافذة هي التي تستهدف اللغات المحلية، حد قتلها من أجل التحكم والسيطرة. فليس أسهل من الفتك بأمة بعد أن يسحب منها لسانها، وتخرس أفواهها عن النطق بلغتها الأم. وإذا كان مثال الجزائر لا يزال ماثلاً في الأذهان ونضالها من أجل استعادة عربيتها، فإن الهند ودولاً أفريقية عديدة، استغلت تعددية لغاتها لفرض لغة واحدة عليها، بحجة التوحيد والتطوير، لا تزال جراحها نازفة، وتشعر بأنها طعنت في هويتها. وحين تفتش جيداً تعثر على نماذج أسوأ.
المفارقة أن الدول الاستعمارية الكبرى التي جنت على الأمم المستضعفة، هي نفسها التي يستيقظ ضمير باحثيها اليوم لإنقاذ ما تبقى من ألسن مبلبلة. وتقود اليونيسكو حملة واسعة مع متخصصين في اللغات الأصلية للشعوب، بعد أن أحصيت سبعة آلاف لغة حول العالم، عرف أن واحدة من بينها تنقرض كل أسبوعين، لإحياء ما اندثر، وهو ما يعتبر خسارة فادحة، وإحاطة المهدد بعناية فائقة. ولما كان قيام إسرائيل قد اعتمد بشكل أساسي على إحياء اللغة العبرية الميتة وإخراجها من الكتب، فيما يشبه نفخ الروح في جثة، فإن النتائج التي ترتبت على هذه التجربة شجعت بالتأكيد على استعادة لغات كان يظن أنها دفنت وإلى الأبد، بنبشها من قبورها، وإعادتها جارية على الألسن.
وتم إصدار أطلس منذ عدة سنوات، يعاد تحديثه، يرسم جغرافية هذه اللغات، ويتابع تمددها وانكماشها، ويتابع حيويتها من كثب خشية فقد بعضها بسرعة يصعب تداركها.
كل هذا ليس من باب الترف العلمي، بل ليقين بأن كل لغة هي ثروة إنسانية فريدة كالبصمة تماماً، لأنها مرآة لبنية ذهنية وتصور للحياة له غناه الخاص الذي تحتاج إليه البشرية لتنمية مداركها، وتوسيع أفقها. وما الاحتفال الذي تنظمه اليونيسكو كل سنة في الحادي والعشرين من الشهر الحالي، إلا مساندة لجهود هؤلاء، وتشجيع على تبني اللغات الأم في التعليم، حتى في حال وجود لغة أخرى. فالتعددية هي الأساس، وليس نبذ لغة من أجل التعلق بأخرى، لقيمة تجارية أو مهنية، كما يحدث في مدارسنا.
ويخشى أن يكون أطفالنا من بين نصف التلامذة في العالم، الذين يثيرون شفقة اليونيسكو، لأنهم يتلقون تعليمهم بلغة لا يفهمونها، أو يستطيعون تحدثها. وهؤلاء مستهدفون بحملات الإنقاذ، لأنهم محكومون بخلل في التعليم لا ينقضي مع وصولهم إلى المرحلة الجامعية.
فالدراسات الحديثة، تربط بشكل عضوي بين إهمال لغة الأم التي هي أساس التكوين النفسي، وما ينتج عنها من خلخلة في الصور العاطفية عند الإنسان، واضطرابات التعلم، كما قصور الأمم عن تحقيق التنمية الذاتية، وعدم الإقبال على التعاطي بإيجابية مع التنوع والتعددية، والآخر المختلف. فأنت حين تبدأ معركة العمر برفض جزء من ذاتك، وصراع مع لسانك، فكيف لك أن تتصالح مع غيرك.
المثير في قضية اليوم العالمي للغة الأم، أنه أقر بمبادرة من بنغلاديش قبل عشرين سنة من اليوم. يومها كانت الدولة التي تثير شفقة العالم، معدومة وتصارع على كل الجبهات، خاصة من أجل الاعتراف باللغة البنغالية. فكان اقتراحها الذي صار عالمياً. هذه الأولوية اللغوية حينذاك، لدولة لا تجد ما تسد به رمق أبنائها كانت في مكانها. برامج التعليم والغذاء التي طبقت منذ العقد الأخير من القرن الماضي، هي من أنجح البرامج على الإطلاق، من حيث قدرتها على رفع نسبة المتعلمين، وطبيعة النتائج التي يحصدونها بعد تخرجهم.
ففي الوقت الذي كانت فيه بنغلاديش تحارب من أجل لغتها، كانت دول عربية تكافح بكل ما أوتيت من قوة، لتغلّب الإنجليزية على العربية، ووصل اضطهاد اللغة الأم إلى حد حرمان الأطفال من إجادتها وتركهم نهباً للعثمة والتأتأة عند التعبير عن ذواتهم. هذا مقرون عند علماء النفس بازدياد الحاجة إلى العنف للتعويض عن قصور الألسن وعجزها.
لمن من العرب لا يزال يسخر من بنغلاديش، فرغم كل المعوقات، وصلت نسبة النمو إلى ما يقارب 8 في المائة، وقريباً جداً إلى 10 في المائة وباتت حكاية هذا البلد الذي اعتبر طويلاً من أفقر دول العالم قصة نجاح تحتذى. تمكنت أمة متمسكة بلغتها وهويتها من أن تنهض بـ160 مليون نسمة كانوا في حضيض الحاجة، بينما فشل لبنان في إدارة أربعة ملايين شخص، بالكاد يشكلون تعداد منطقة صغيرة في تلك البلاد القصية.
ليست اللغة كل الحكاية بالتأكيد، لكن الاعتزاز باللغة التي هي أصل في الانتماء، مؤشر على مدى تمسك الأمم بانتمائها. وفرق بين بلد تكون له نواة صناعة، وسهول زراعية، وجبال خضراء، يحولها كلها إلى هباء، وأرض ممتحنة بالفيضانات والمجاعات، ويضرب المثل بما يجتاحها من كوارث تتحول إلى مصنع ضخم لملابس العالم.
من المؤلم أن يشتهي عراقي أو لبناني - كي لا نعدد آخرين - بنغلاديشياً، رغم كل ما توفر لشعوب عربية، في الحضيض اليوم، من فرص ذهبية. لكن من المفرح أيضا، لا، بل من المشجع جداً، أن ترى شعوباً تمكنت بفعل الكد والاعتزاز من اللحاق بركب الحداثة والتكنولوجيا، مع أن معوقاتها كان يمكن أن تبقى كارثية لفترات طويلة مقبلة.
بنغلاديش أطلقت يوم اللغة الأم وكان لهذا معناه الذي يفترض أن يرى بعين ثاقبة ممن لا يزالون يرون في الإنجليزية ضالتهم والفرنسية منجاة لطبقيتهم، فإذا هم في ضلال مبين.