فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مع ألان دونو حول «نظام التفاهة»

يبدو «غزو البلهاء»؛ بتعبير أمبرتو إيكو، مريعاً، بحيث تصعب على العقلاء مقاومته... طوفان من المحتوى الموبوء يغرق وسائل التواصل والتطبيقات... مليارات من الثواني المبثوثة المثقلة بالتفاهة مع اغتباطٍ ذاتي شديد. والتفاهة المصدّرة والمنشورة تشكل خطراً على الأخلاق. أخذت معها ضحاياها من مثقفين ورجال أعمال وأكاديميين صغرت عقولهم وباتوا ينافسون الحمقى والمعاتيه على تلك المنصات ويحشرون أنوفهم معهم بغية التباهي بالذات، أو الاستعراض الأبله الاستهلاكي، بل والزهو الأحمق بالذات وسط مبررات مشوهة ومزورة.
إنها معركة العصر؛ الحرب على التفاهة، الظاهرة التي خصص لها ألان دونو، أستاذ الفلسفة الكندي، كتاباً كاملاً بعنوان «نظام التفاهة» ونشر مؤخراً باللغة العربية بترجمة غنية عملت عليها الأستاذة مشاعل الهاجري، وقد كتبت مقدمة أساسية لأبرز طروحات الكتاب لخصت بها ما ينطبق على الجلبة العربية السوشيالية.
في عرض الأفكار الأساسية للكتاب؛ خصصت الدكتورة الهاجري فقرة حول «الشبكات الاجتماعية» و«نظام التفاهة» ذكرت فيها أن «الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام) هي مجرد مواقع للقاء الافتراضي وتبادل الآراء لا أكثر، فيها يتكون عقل جمعي من خلال المنشورات المتتابعة. هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور وبسرعة وبدقة موضوعاً محدداً نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل (المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد). ورغم كل هذه الفرص؛ فقد نجحت هذه المواقع في ترميز التافهين؛ كما يُقال، أي تحويلهم إلى رموز، ما يجعل من كثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا والفاشينيستات يظهرون لنا بمظهر النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يبق إلا عليه وحده معياراً».
في افتتاح الفصل الرابع وتحت عنوان «ثورة - إنهاء ما يضر بالصالح العام»، تذكير بمقولة تاريخية لألبير كامو، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1957، والذي كتب: «تغيّر كل شيء اليوم؛ حتى الصمت صارت له تداعيات مخيفة، في اللحظة التي ينظر فيها إلى الامتناع عن ممارسة خيارٍ ما، كأن هذا الامتناع هو بحد ذاته خيار، فيعاقب أو يمتدح على هذا الأساس». ربما تملأ التفاهة صمت العقلاء، ويجرف المحتوى التافه ما تباهت به البشرية من منجزات أدبية وفنية وإدارية وسياسية وتاريخية، لأن التفاهة لم تعد مجرد سوق لها نظامها وأسعارها وطرق التداول فيها؛ وإنما تحمل معها قيماً جديدة تتعلق بالأخلاق والمثل والعادات وأساليب العيش والموقف من الغرب أحياناً كما في تداول العبارات في «سنابشات».
يتوجه كتاب «نظام التفاهة» إلى إدانة «إسباغ التفاهة على كل شيء، وتكمن الخطورة الحقيقية للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة، وفي ظل ما يحاصرنا من دعاوى التسليم والانقياد الفكري الأعمى تحت مسميات إطلاقية كالحلال والحرام والعيب والتقاليد وتقديس الأشخاص والرأي العام والشعبوية، علينا أن ندرس التفكير الانتقادي القادر على التعرف على كل دعوى تافهة مثل هذه؛ بل وأن نستحضر جميع نماذج التفكير الانتقادي الصرف».
والأدهى حين يتحول المحتوى التافه إلى موضوع للتسلية، أو وسيلة للإضحاك... يغدو حينها الموضوع المطروح أو تحدي القوانين والأنظمة، أو الشروع في العدوان على الأديان والمذاهب الأخرى، أمراً يستدعي البهجة والقهقهة، ويصير الواقع الغريزي والأناني والعدواني هو الأساس في تعامل طارح المحتوى التافه مع متابعيه، بل قد يتحداهم إن استطاعوا تجاوز حسابه السوشياليّ وتركه وشأنه في آرائه وأدبياته وسلوكياته من دون اضطراره لاستماع آراء معارضيه ومنتقديه.
«وظيفة التفاهة»؛ كما يعبر ألان دونو، أن «تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير... النظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري. إنها تحيلنا إلى أغبياء. فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة هو أمر مفهوم، وأن بعض الناس يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك؛ فإن البعض منا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة».. (ص:85).
ما هو أخطر من التفاهة ألا يشعر بعض التافهين بخطر انتشار التفاهة، هنا يستباح مجال التفكير العلمي المبني على نظرياتٍ وأدوات وخبرات وتجارب.
اليوم من ينجُ من هذا الطوفان الجارف ينجُ من شر عظيم، وإنما العاقل من حرس نفسه وعقله وأهله من تلك البيئات المنحطة القادرة على جعل الوجود أجوف، وعلى تفريغ الحياة من السعي والبحث والتعلم والتطور.
في نظام التفاهة يجعلون كل شيءٍ سهلاً، ولا يصبح للنجاح معاييره أو للوصول سلّمه.