إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

كله في الدماغ

في البداية، تهيبت من خوض «فيسبوك». كان بالنسبة لي محيطاً شاسعاً مكشوفاً وأنا أمد طرف قدمي لأقيس برودة الموج. قررت أن أنزل البحر باسم غير اسمي. استعرت اسم واحدة من الشخصيات الروائية الأقرب إلى قلبي. كنت أعرف أنني أمارس التزوير لكنني تغاضيت وغفرت لذاتي طالما أن نيتي حسنة. ألا يحق لي الانغمار في معمع التواصل المعولم دون أن أتبلل؟ لكن الخطة سرعان ما فشلت. أماط الأصدقاء لثامي وسحبوني إلى اللجة. ولم تكن تلك أولى محاولاتي في التبرقع. ومن يشتغل عمراً في الصحافة يعرف ضرورات الأسماء المستعارة.
هذه ديباجة سريعة لأقول إننا نعيش في عالم عجيب التحولات. ما عاد من الممكن تمييز الأصل عن المستعار. كان فلان يعاني من ارتفاع ضغط الدم وسمعت الطبيب يطلب منه تقليل ملح الطعام أو الاستغناء عنه. قال إن هناك في الصيدليات «ملحاً من دون ملح». وقد مرّ على سماعي تلك الوصفة عقدان من السنوات لكنني للآن لم أستوعبها. كيف لي أن أصدّق ما أقرأه اليوم عن شرائح «ستيك» من البلاستيك أو لحوم مصنوعة من الخضراوات والألياف النباتية؟ أعرف أن الليف للحمّام لا للأكل. لكنهم يحاولون إقناعك أن اللحوم الجديدة الخارجة من المصنع ألذ من الأصلية. لها المذاق المهلك لتجاويف رقبة الخروف دون أن تكون سكين الجزار قد مرّت على رقبة.
نعيش عصر الرأفة بالحيوان. وبات ممنوعاً ارتداء معاطف الفراء أو التحلي بأساور من عاج الفيلة. أفهم هذا وأخشى أن يحرموا، ذات يوم، صيد السمك. بل هو محرّم خارج مواسم معينة. وهم قد حظروا صيد الفيل والفقمة والغزال والأفعى والدب القطبي وغيرها من الألائف أو الوحوش. ولو عاد حاتم الطائي لما استطاع أن يكرّم الضيف بنحر ناقة لإطعامه. وفي الأسواق فراء صناعي وحلي على درجة عالية من التقليد ولآلئ تجري تربيتها في محار سريع التفريخ. وفي الأخبار أن العلماء توصلوا إلى إنتاج فصوص من الألماس الصناعي وذهب له بريق الذهب وهو منه براء. يسلقون الألماس في غمضة عين كما تُسلق بيضة.
ترددت طويلاً في ركوب عربات الترام التي تسير من دون سائق. هل أضع عقلي بين يدي برنامج إلكتروني قابل للاضطراب بما يودي إلى التهلكة؟ وأظنه التردد نفسه الذي شعر به أجدادنا يوم ظهرت القطارات والطائرات والمصارف التي زعمت لهم أنها تحفظ مدخراتهم وتضاعفها لهم. كانت جدتي لا تأمن على دريهماتها إلا في وسادتها تحت رأسها. وها أنا أتلقى مرتبي في حساب بعيد عني أميالاً وأسحب من جدار في الشارع حاجتي منه وأتحكم به من خلال هاتف طوع بناني.
ظهرت طائرات من دون طيار. تقصف وتقتل «ولا حد شاف ولا حد دري». حديد يكسّر بعضه. وسيارات من دون سائق أو كائن لطيف نغني له «سوق على مهلك». ولو عادت فاتن حمامة مثل عودة حاتم الطائي لما وجدت تاكسياً تقول لصاحبه: «اطلع يا أسطى». السيارة تطلع من تلقاء نفسها وتأخذ راكبها إلى العنوان المطلوب وتتوقف هناك. تنتظر برمجة جديدة. وغداً قد تستغني المركوبة عن العقل البشري وتبرمج نفسها بنفسها.
ألا يمكن لمن صنع قلباً نابضاً وقرنية للعين وشعراً مزروعاً وأطرافاً صناعية وجلداً تحكّه وهو غير جلدك، وبظفر غير ظفرك، ألا يمكن له أن يصنع عقلاً؟ ما عاد يمكن الفصل بين طفرات التقدم العلمي وبين التقليد المروع للطبيعة و«تزييف» أرقى كائناتها. نحن نقول إننا الأرقى ولم نكتشف المجرات الأخرى تماماً. السر كل السر في الدماغ. وهناك أقوام تجيد تشغيله وغيرها تخشاه وتستغني عنه.