عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الموت مع الكتب

هل تتصور الحياة في عالم بلا كتب؟
هذا الأسبوع بدأت كاثي كرو - ريد، ناظرة مدرسة وولفرهامبتون الثانوية (140 ميلاً شمال لندن) «ثورتها» للتعليم اليوطوبي بإنهاء استخدام الورق (كمطاب التغير - مناخيين).
تذكرت «451 فهرنهيت» رواية الأديب الأميركي راي برادبري (1920 – 2012)، وقدمها المخرج الفرنسي فرنسوا تريفو (1932 - 1984) لما وراء العالم الأنغلوساكسوني بفيلمه في 1966. أثارت التساؤلات عما قصدته أحداثها وشخصياتها من إيحاءات رمزية.
رسمت الرواية، الفائزة في 1954 بجائزة أكاديمية الفنون والآداب الأميركية، صورة قاتمة متشائمة لمجتمع ديسطوبي (عكس اليوطوبي المثالي)، شمولي، مهمة رجال الإطفاء فيه حرق الكتب عند درجة 451 فهرنهيت. مصادر المعلومات الوحيدة في المستقبل الديسطوبي ما يقدمه التلفزيون كأداة في يد الأوتوقراطية الحاكمة.
الأنظمة الشمولية تكره الكتب كرمز لاستقلالية تفكير الفرد وحريته ليس فقط في اختيار ما يقرأه، بل أيضاً خصوصية العقل الفردي في رسم الصورة التي تكونها الكلمات في مخيلته.
فكرة كراهية الديكتاتوريات للكتب سبقت، بسنوات، الرواية التي نشرت في 1953؛ عشرون عاماً بعد حرق النازي للكتب. الرواية تنتهي بأن يهجر عشاق الكتب المثقفون المدينة الديسطوبية إلى جزيرة تحتضنها الطبيعة بالأشجار الباسقة ويحفظ كل منهم كتاباً يلقنه الكهل للطفل قبل أن يموت.
هل كان برادبري اختار نهاية أخرى لروايته لو كان قد تصور تطور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وظهور أجهزة الآيباد والآيفون وقراءة الكتب والمعلومات عبر وسيلة لا تصل إليها نيران رجال الإطفاء؟
من الصعب الإجابة عن السؤال. ففي المقابلات الإذاعية في الستينات لمح برادبري إلى خشيته على المجتمع الأميركي من اغتيال المادة الأولى من دستوره وهي حرية التعبير. الرواية نشرت في العهد المكارثي (1947 - 1957) ولجنة السيناتور جوزيف مكارثي (1908 - 1957) تستجوب الفنانين والكتاب والمبدعين، المتهم بينهم بترويج للشيوعية يحال لمكتب التحقيقات الفيدرالي ويمنع من العمل.
بعد عشرين عاماً أعاد برادبري تفسير الرواية بتحذير من سيطرة وسائل الإذاعة المرئية على العقل الجماعي على حساب الكلمة المطبوعة. وبجانب احتكار صناع الصورة المبثوثة لصياغة الرأي العام، تكمن الخطورة في تلخيصها لأكثر المعلومات تعقيداً في «كبسولة» الصورة المبسطة مع عبارات سطحية؛ وهذا بدوره يعرقل تطور عقول جيل جديد يفقد مهارة تعمق التفكير، فلا يحاول البحث المستقل عن الحقائق. وفي السنوات الأخيرة اختفى الفكر النقدي من مناهج معظم مدارس بريطانيا وأوروبا (ألغي في مدارس مصر في 1958).
الأبلة كاثي تتهم المؤسسات التعليمية في المملكة المتحدة بتخلفهم عن اللحاق بثورتها التقدمية. الأبلة الناظرة منعت الكتب والكراريس والأوراق واستبدلت بها «آي - باد» لكل تلميذة. البنات، حسبما تقول الناظرة، مدربات على الوسائل الإلكترونية والأدوات الرقمية، ويقدمن الواجب المدرسي ومواضيع الإنشاء وحتى الامتحان بالرسائل الإلكترونية.
عالم منفصل عن عالم مدارس الإسكندرية أو برايتون (47 ميلاً جنوب شرقي لندن). حتى في جامعة لندن عند تخرجي قبل خمسة وخمسين عاماً لم يكن أحد قد تخيل هذه المخترعات الحديثة. كيف يتصور جيلي الذهاب إلى المدرسة بلا حقيبة تثقلها الكراريس والأوراق وأقلام الرصاص والقلم «الريشة» التي نغير «سنها» النحاسية حسب الخط المطلوب للحصة الدراسية؟
تلميذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية كان مثل «أطلس» يئن من حمل عالمه كحقيبة مثقلة بكتب مجلدة نحملها من المكتبة إلى البيت إلى الفصل. كتب تركنا على هوامشها رسوماً تسخر من المعلم أو حضرة الناظر، أو كلمات يحمر وجهنا خجلاً لتذكرها.
كانت السبورة جهاز إرسال المعلم، والطباشير وسيلة التعبير، بينما «التختة» (المكتب الصغير للتلميذ) محطة استقبال المعلومات أجهزتها الكراسة، وهوائي الاستقبال الريشة التي نغمسها في دواية (محبرة) من الصيني مثبتة في الركن الأيمن للتختة. كنا نغمس أوراق النشاف (اللازمة لتجفيف الحبر على الصفحة) في المحبرة ونكورها في قذائف صغيرة، نرشق بها، بالمسطرة الخشبية كمنجنيق، التلاميذ «الشطار» في الصفوف الأمامية عندما يدير المعلم ظهره ليكتب على السبورة.
ورغم الشقاوة وإضافة ما لا يليق إلى هوامش الكتب، فقد اجتهدنا في التحصيل وكان التفاخر بالمعلومات من هوايات أوقات الفراغ في ألعاب مبارزة ذهنية مع الزملاء. ملأت المباريات المعرفية أدمغتنا بأسماء أبطال الأساطير الإغريقية أو أنهار في بلدان بعيدة. ولا أتصور كيف سيعوض الآيباد والأجهزة الإلكترونية الفراغ المعرفي في عالم بلا كتب ومحبرة وريشة وسبورة وطباشير.
تسابقت مرة مع أحد أولادي، وكان في الرابعة عشرة ممسكاً بالآيباد على الأريكة في التوصل لمعلومة تاريخية من الأدب الإنجليزي، وأنا نهضت إلى خزانة الكتب قاصداً مجلد أكسفورد للأقوال المأثورة. سبقت الولد بست دقائق، فمحرك البحث داهمه بتسونامي من الصفحات. القول كان للشاعر كامبل، وهما اثنان في الأدب الإنجليزي بفارق يقارب مائتي عام.
تدريب معلمي بعد الحرب العالمية الثانية على البحث في الفهرس في نهاية الكتاب، سبق تدريب محركات بحث القرن الحادي والعشرين. واتصلت بمعلم الابن لأساله لماذا لم يدرب التلاميذ على البحث في الكتب بالأسلوب الكلاسيكي؟ فقال إن ذلك مدرج على المنهج بعد عامين لأن الأولاد قبل هذا الصف عالمهم إلكتروني يجدون البحث في الكتب «مملاً».
التلميذ يستطيع بالفعل أن يحمل ما يملأ خمسة أرفف كتب على الآيباد وينزل أي كتاب أو ما تتضمنه دائرة المعارف البريطانية تحميلاً على تليفونه الذكي. لكن ماذا يفعل في حالة انقطاع التيار الكهربي؟ أو نفاد بطارية جهاز القراءة، أو عندما يتعرض مركز تخزين المعلومات لغزو فيروس إلكتروني؟
الأمر الأكثر خطورة مما تنبأ به برادبري في «451 فهرنهيت» وعالم بلا كتب تختارها بحرية وتدون على هوامشها وتشير إلى صفحاتها مع ابنك. فخيار حضرة الناظرة الأبلة كاثي يتيح لقوى خارج إرادة الفرد السيطرة ليس فقط على مصادر المعلومات، بل وتوجيه محرك البحث إلى ما تقرر هذه القوى أنه فقط المناسب للتلاميذ بينما يحرمهم من الاطلاع على تراث من ملايين كتب المعرفة الإنسانية عبر العصور.
في مشهد من فيلم وثائقي عن حرب البوسنة يظهر العاملون في مكتبة غازي حسيريف - بك في سراييفوا يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الكتب والمخطوطات من الدمار. سألوا حارس المكتبة عباس لوتومبا - حسين لماذا يعرض حياته لخطر رصاص القناصة لنقل الكتب إلى مكان آمن، فأجاب: «الموت مع الكتب أفضل من حياة من دونها».