مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

الاحتلال التركي يطل برأسه من جديد

بدأت شمس السياسة تختفي وراء الغيوم، وأصبحت رؤية النهار مزدوجة بين الغروب والظلام، ليحتل ليل الاستعمار وجحيم الاحتلال مركز السيادة في وعي المتوجّس، فما أغمض عينيه وأطلق لخياله العنان، حتى شهد اللحظات الأكثر دموية في حياة الشعوب المستعمرة والمحتلة وصدمات عنيفة، ما يعني أن الجرائم الاستعمارية القديمة تمددت جذورها في العالم العربي، وأصبح التعدي على سيادة الدول ديدن المستعمر والمحتل.
بداية من استعمار فرنسا للجزائر، واحتلال إسرائيل لفلسطين، كان الصراع القومي بين الصفويين والعثمانيين قائماً تشكّل مداه على سياسة الدول المستقرة، وحوّلها إلى دول مثقلة بالمسؤولية تبحث عن تحديد المصير الكامل، وفي تلك الحقبة استقبل الإيرانيون سقوط الخلافة العثمانية في العشرينات بالفرح والترصد، وتجاوزت أهدافها السياسية عامل الزمن.
واتسعت مناطق الفوضى عبر مسارات التاريخ الوعرة، بعد أن نالوا من جند الأوطان العربية، وجعلوهم أقرب إلى مرمى مدفعية الحقد التي وجهت نيرانها إلى صدورهم، وهلك كثير من المدنيين الأبرياء، وهلك بعض من قادة إيران المجرمين معهم، في الحقيقة هي أطماع المستعمر السياسية والاقتصادية، ووحشية رغباته في الانتقام، ونهمه الجشع للوصول إلى آبار النفط والغاز في العراق وسوريا وليبيا، ورغبة في احتلال المواقع الاستراتيجية في اليمن ولبنان، بما أنها حلقة الوصل بينها وبين العالم، في علاقة تراكمية تعزز ممارسات سياسية للاحتلال تقف على خطوط انتظار الاندماج، بأفواج جديدة من المستعمرين القدامى عند أحد المنعطفات.
وعلى هذا النحو، تسير التطلعات التركية باتجاه بناء القواعد العسكرية في الدول العربية، تمهيداً لفرض أجنداتها عليها، فكانت أول قاعدة لتركيا تقيمها خارج أراضيها، في سوريا والعراق وقطر والصومال والسودان وليبيا، لكن تبخرت آمالها في جزيرة سواكن السودانية مع رحيل البشير. لا شك أن رؤى العالم تشكلت مكوناتها من النفوذ الإيراني الذي سيطر على 4 عواصم عربية، حيث تحقق الهدف المنشود بالفوضى الخلاقة، وإبادة الشباب، لأنهم مصدر القوة، وشعلة ثورات الشعوب، كما حدث في الجزائر من المستعمر الفرنسي.
هكذا يرتبط مفهوم الصراعات وأشكال الاستعمار المتعددة بأساليب مشابهة جرى اعتمادها من قوى عظمى لها مصالح ومنافع في الهيمنة. تجلت صورة المشروع التركي بشن حرب هنا وحرب هناك لأهداف توسعية، والسيطرة تكشف عن محاولات مستميتة لإحياء التاريخ الاستعماري للإمبراطورية العثمانية، فهي، من جهة، تحاول استعادة السيطرة على جميع الأراضي التي كانت الدولة العثمانية قد استولت عليها بالقوة، وذهبت إلى ما هو أبعد من إجراءات بتفويض رئيسها للقيام بانتهاكات صريحة للقانون الدولي والعديد من ابتكاراته المتطرفة، وذكر تقرير للأمم المتحدة اطلعت عليه «رويترز» أن تركيا أرسلت بالفعل إمدادات عسكرية إلى حكومة فائز السراج في ليبيا، على الرغم من حظر تفرضه الأمم المتحدة، وتقول إنها ستواصل دعمها. من جهة أخرى، تحاول استعادة النقاط الاستراتيجية التي تمكنها من فرض نفوذها على المناطق الغنية بالنفط في ليبيا.
وهو ما يمكن التعبير عنه بأن الأفكار القومية تغلغلت وحلَّت مكان الارتباط بالإسلام والطاعة العمياء للسلطات السياسية والدينية، حتى تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى صراع عنيف من أجل السلطة، وهذا ما يطبقه الرئيس التركي الآن، حتى باتت لبلاده موطئ قدم عسكري في 5 دول عربية، وكذلك الحال مع إيران التي تسير بنفس الاتجاه مسيطرةً على 4 عواصم عربية، واستطاعت أن توسع نفوذها ليشمل مدن بغداد، وصنعاء، ودمشق، وبيروت، عبر مجموعات محلية تدين لها بالولاء المطلق، فأصبحت هي الأخرى تسيطر على 4 دول عربية بقوة السلاح.
ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم، بل الهدف هو إنهاك مقنن وتآكل للدول خطط له وتجاهل الرأي العام واستبعده، لتكوين حالة من الارتباك وسوء التقدير للمشهد السياسي العربي، وبذلك تحولت مجموعة من الدول العربية إلى مناطق نفوذ لقوتين أساسيتين، تركيا وإيران، وظلت إيران منفلتة من عقالها، وأظهرت نياتها التوسعية في العالم العربي، بحجة حماية الشيعة، فباتت تعبر بوضوح عن رغباتها في الهيمنة على المنطقة العربية.
وعلى الرغم من أن خسائر الدول العربية كبيرة وضخمة، فقد جرى تهميشها لأسباب جوهرية، منها زعزعة الاستقرار، ينفذها مواطنون من الدول لصنع دولة فاسدة كنوع من الضرر باقتصاد متداع ومتهالك، وإضعافها، والتقليل من أهمية التدهور فيها، بينما اهتم العالم بالأزمات النووية الإيرانية والكورية الشمالية، وترك تركيا تصول وتجول، تقود تيار «الإخوان المسلمين»، وتثير كثيراً من الشكوك حولها، وعوامل التناقض والتباين متأصلة في مخططاتها الإرهابية، رغبة منها في بسط نفوذها، تحت ستار الدين.
هناك دروس فهمناها من تاريخ الرئيس التركي إردوغان؛ بأنه عندما يفشل ينتهج العنف والتدمير والحرب والانتهاكات، رغم أنه يحاول استغلال الدين وتوظيفه لأهدافه السياسية، فهو يعقد اللقاءات والتحالفات مع أعداء لهم باع طويل مع العرب، فأصبح التدمير مشتركاً، وتركيا التي لم يكن لها أي قواعد عسكرية خارج الدولة قبل سنوات، أصبحت تملك وجوداً عسكرياً في 5 دول عربية.
إلا أننا لو نحينا جانباً هذه الأحداث، لوجدنا أن العامل المشترك بين الطرفين التركي والإيراني هو استعادة الماضي من أجل الاستحواذ على ثروات المنطقة العربية، تستحث خطاها الرغبات المنحرفة تحت ولاء مستبد غائر في الاستبداد يشعل الصراعات في تلك الربوع الشاسعة، لتصبح موطناً للأشرار والمجرمين تشرّع قوانين استعمارية فاسدة لإباحة قتل الشعوب.
والآن يشهد العالم الدولة الفارسية الصفوية والدولة العثمانية، ولكن بصيغتهما الحديثة، تركيا وإيران، مع فارق من الأعمال التخريبية، تتباين وتتفق وتنفذ هجمات متعددة في البلدين لتنحسر الأزمة بين القوتين، وذلك بسابق إنذار يحكي للعالم الانجراف مع ركام التاريخ، على غرار أحداث القرن الرابع عشر بين الإمبراطورية العثمانية والدولة الصفوية.