سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الأسطورة غصن

يستحق كارلوس غصن لقب «جيمس بوند» الذي أطلق عليه بعد هروبه الاستعراضي من اليابان، منتصراً بمهارة على جاسوسية التكنولوجيات المتطورة وكاميرات المراقبة، والانضباط الفائق الدقة، ومفلتاً من قيود الإقامة الجبرية الصارمة. لكن الاستعراضية الاستفزازية بدأتها اليابان حين قبضت على المدير التنفيذي لكبرى شركاتها الصناعية، وهو لا يزال في الطائرة الخاصة التي هبطت به في طوكيو. وكأنما أريد أن يرى العالم كله كيفية صعود رجال الأمن على متنها لإنزال غصن بطريقة مهينة وبمشهدية مذلة. وكان يمكن للسلطات هناك أن تنتظر هبوطه أو حتى وصوله إلى بيته أو مكتبه، لتنفذ قرارها من دون الضجيج الذي أثير، والتصوير المتعمد والبث الواسع.
من الصعب الدفاع عن كارلوس غصن أو إدانته بالاتهامات التي وجهت إليه، فثمة من يتحدث عن جانب سياسي لقضيته، وآخرون يكشفون عن خطة كبيرة كان يعد لها غصن للتحالف بين شركتي رينو ونيسان اللتين يديرهما، استشعر اليابانيون أنها لن تكون لصالحهم. والكلام كثير عن طعنة في الظهر سددها له مساعدوه في اليابان، وأقرب المقربين منه، للإيقاع به. وسجّل الصحافيان الفرنسيان إيمانويل إيجلوف وبرتل بيار في كتابهما «الفخ»، تحقيقاً استقصائياً طويلاً حول ما حيك في الظلام لرجل نيسان القوي، من قبل محيطين به في الشركة بالتنسيق مع القضاء الياباني، طوال أشهر للتخلص منه.
لكن ما كان للمتربصين بالرجل أن يتمكنوا منه لولا أخطاء ارتكبها، وتجاوزات انساق إليها، وغلطة الشاطر بألف، وقد تكون القاضية. وما حصل لعبقري الإدارة ومنقذ الشركات من الإفلاس أنه كان معولماً أكثر مما ينبغي، في بلد لا تزال تقاليده أقوى من أن تكسر. فقد أثار أجره الذي بلغ مليون يورو في الشهر حفيظة كثيرين في اليابان، بحيث اعتبر مبلغاً غير منطقي، وكان عليه أن يدافع عن حقه فيه باستمرار، والأمر نفسه واجهه في فرنسا. فما هو مقبول في أميركا يثير حسداً وضغينة لدى شعوب أخرى تشعر بالضيم من موجة تضخم الأجور لحفنة من الناس، على حساب كثرة يتم إفقارها، بحجة مكافأة النجاح. وحين سئل أمين عام نقابة العمال في فرنسا عن هرب غصن أجاب «إنها قضايا أغنياء، لهم طائرات خاصة، وأموال يوظفونها، وجوازات سفر كثيرة تسهل تنقلاتهم».
لكن أحدهم كتب أن غصن يساوي 15 مليار دولار، وهي الخسارة التي تكبدتها الشركتان بسبب سقوط مديرهما التنفيذي. وعلى أي حال كيفما تحرك كارلوس غصن يثير جدلاً. ففي نجاحاته كان منظوراً ومرصوداً وفي إخفاقاته لا تكفّ الصحافة عن متابعة دقيق حركاته وسكناته.
ليست النجومية عادة، من حظ مديري شركات صناعة السيارات، إلا أن غصن استثناء، لإنجازاته الكبيرة من ناحية، ولحب الظهور لديه من ناحية أخرى. فالرجل له ميل كبير لنسج علاقات، كانت جزءاً من صعوده، وسهلت مهماته الصناعية، وأحلامه في توسعة الشركات التي يديرها. صديق الرؤساء والوزراء والنافذين، استفاد دائماً من مهاراته اللبنانية، وثقافته البرازيلية، وتعليمه الفرنسي وخبرته الأميركية.
تمكن غصن من إنقاذ نيسان من كارثة محققة، و20 مليار دولار من الخسائر. وعد بأن يعيد، فخر الصناعة اليابانية أفضل مما كانت خلال ثلاث سنوات، فجعلها واحدة من أغنى شركات السيارات وأنجحها في زمن قياسي. سريع كارلوس غصن وهذه من خصائصه اللافتة. فبعد سنة واحدة كانت البشائر قد تجاوزت المتفق عليه.
استحق بعد إنجازاته هذه - رغم أنها ضربت بعرض الحائط تقاليد من صنف الصرف من العمل، أو إغلاق فروع للشركة - أن يصبح في اليابان رمزاً للنجاح، وأسطورة مجسدة في كتب «المانغا» للقصص المصورة الواسعة الانتشار. وصار اليابانيون ينحنون له إجلالاً لخدماته الوطنية التي لا تضاهى.
بقيت العيون ترقب الرجل بسلوكياته النافرة. الطائرة الخاصة لنيسان التي تؤمن تنقلاته بين القارات، نمط العيش المرفه الذي يحب أن يظهره ولا يداريه. منازله الفاخرة. لم يكتف غصن صاحب الحيوية الفياضة بأجره المرتفع، فله استثمارات وأعمال في شركات عدة، وأسهم تؤمن له أرباحاً إضافية. طموح غصن لكن البعض يرى في ممارساته جشعاً. أراد اليابانيون بعد سجنه أن يُنسى كأنه لم يكن، لكن الاهتمام به ازداد ولم ينطفئ، وإثر هروبه صار كل خبر صغير حوله سبقاً.
في فرنسا ثمة من يعتبره ضحية، ويلوم السلطات لأنها لم تقم بما يكفي لمساعدته كمواطن فرنسي. وهناك من يرى فيه مجرد ثري آخر يثير ضجيجاً. وفي لبنان، يصل كارلوس غصن والمعركة على الفساد في أوجها. الترحيب به في وطنه الأم، يقتصر على البعض، بينما يراه آخرون شبيهاً بالطبقة الحاكمة بشطارتها وحبها للمال. ولو حط في بلاد الأرز في غير هذا الظرف لربما كان من أشد المؤهلين لرئاسة الجمهورية.
في زمن الثورات التي تجتاح القارات، ضد الرأسمالية المتوحشة والمال الفاحش، تبدو قضية غصن كأنها تستفز مشاعر، من سئموا تجاوزات أصحاب الثروات وحكايات المستثمرين وشطارتهم. لكنّ صحافياً فرنسياً تساءل: «لماذا نقبل أن يكون أجر لاعب كرة قدم عشرة أضعاف راتب غصن الذي قضى سنوات في التعليم وبذل جهداً خارقاً في العمل؟ ولا نشعر ناحيته بالحسد أو الضيق، كما لا نتهمه بالشراهة؟». ولمن لا يعرف، يكسب لاعب برشلونة ليونيل ميسي، وكذلك نجم ريال مدريد السابق كريستيانو رونالدو مائة مليون دولار سنوياً، لكل منهما، ومثلهما يمكن الحديث عن نجوم سينمائيين ومغنين لا تزعج ثرواتهم أحداً. يبقى أن قصة كارلوس غصن، كما كتب زميلي وأستاذي سمير عطا الله من خامة تصلح لأن تتحول إلى فيلم هوليوودي، بعد أن بدأت تكتمل لها كل عناصر التشويق وتثار الأسئلة، والآتي لن يكون قليلاً.