أخبرني صديق أثناء واحد من النقاشات البرلمانية التي انتهت دونما نتيجة حاسمة: «أتمنى لو أنني أستطيع قلب صفحات الكتاب سريعاً ومعرفة ما سيحدث في النهاية». الآن، على الأقل انتهى الجزء الأول من ملحمة بريكست.
وبغض النظر عن تأييدك أو معارضتك لبريكست، الحقيقة المؤكدة اليوم أن بريطانيا تقطع علاقاتها بالاتحاد الأوروبي القائمة منذ 46 عاماً. أما العام القادم فستكون القضية الكبرى به شكل العلاقة الجديدة مع الاتحاد الأوروبي. أما عام 2019 فيمكننا القول إن ما وصلنا إليه اليوم في جزء منه نتيجة ثلاثة مشروعات أخفقت ومشروع آخر لم يخفق، يمكننا وصفهم بثلاث جنازات وحفل زفاف.
صعود المستقلين، أطلق عليهم لفترة وجيزة «الرائعون السبعة» من أعضاء حزب العمال والذين انشقوا عنهم لرفضهم التوجهات الراديكالية للحزب، وعلى أمل بناء بديل أكثر اعتدالاً وحداثة. وبعد ذلك انضم إليهم بعض أعضاء حزب المحافظين، لكن هذا الانشقاق انتهى مثل واحد سابق وقع عام 1981 بالفشل، فقد واجهت هذه المجموعة منذ اللحظة الأولى صعوبة كبيرة في تحديد اسم وزعيم ومنصة. ولم يتمكنوا من الوصول إلى كتلة حساسة، وإنما خسر غالبية أعضائها مقاعدهم البرلمانية.
ومع هذا، أضرت عمليات الانشقاق بزعيم حزب العمال جيرمي كوربين وسلطت الضوء على افتقاره إلى الدعم بين أعضاء الحزب في البرلمان، وعد عجزه عن تناول مشكلة معاداة السامية في حزبه وسياسته تجاه بريكست التي تفتقد التناغم مسؤولا عن الانشقاقات التي أدت إلى تقوية موقف أنصار بريكست.
تحالف البقاء مني بالإخفاق، على امتداد الجزء الأكبر من العام ظلت المسألة الكبرى أن يحدد أعضاء البرلمان ما يرغبون به.
وكشفت استطلاعات الرأي أن غالبية صغيرة من الناخبين ستؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي حال عقد استفتاء حول بريكست من جديد. إلا أنه حتى أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي داخل البرلمان فشلوا فيما بينهم في الاتفاق على ما إذا كان ينبغي عقد استفتاء ثان. وقد خاف كثيرون من الفكرة ولسبب وجيه، فإذا فاز الراغبون في البقاء في الاتحاد الأوروبي، فسيشعر أنصار بريكست بالخيانة وسيعتبرون النتيجة غير ديمقراطية. وإذا فاز أنصار الرحيل، فسيكون هذا أسوأ تأكيد من نوعه في مواجهة من روجوا لفكرة عقد استفتاء ثانٍ وغالبيتهم من مؤيدي البقاء في الاتحاد.
وكلما طال أمد تردد مؤيدي البقاء وانقسامهم، تراجعت ثقة الناخبين في قدرة البرلمان على التوصل إلى أي حل. وجاءت ضربة الموت عندما طرد بوريس جونسون 21 من أعضاء البرلمان من حزب المحافظين لمحاولتهم إعاقة إقرار بريكست دونما اتفاق. واتضح للجميع أن هذه المجموعة اليتيمة بلا حول ولا قوة، وترك كثير من الأسماء الكبرى البرلمان إلى الأبد.
اتفاق تيريزا ماي وافته المنية، خلال فترة ماي في منصب رئيس الوزراء، هيمنت عيوبها كسياسية على المرحلة، على رأسها عجزها عن بناء تحالفات وإقناع الآخرين. وكذلك هيمنت على المرحلة مشاعر الإنكار المرتبطة ببريكست، فلم يصدق أي من أنصار الرحيل عن الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه أن الطريق الذي يفضلونه ستترتب عليه خسائر. وبالتالي، شعر الجميع بكراهية تجاه اتفاق ماي الذي نشر دائرة الخسائر على الجميع. أنصار البقاء تبعاً لذلك الاتفاق كان عليهم تقبل خسارة القدرة على الدخول إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، بينما كان يتعين على أنصار الرحيل تقبل الالتزامات الطويلة تجاه الاتحاد الأوروبي لتجنب إقرار حدود صلبة مع آيرلندا.
مع اقتراب الموعد النهائي لبريكست، حاولت ماي خوض مغامرة أخيرة لكسر التأزم. وقدرت أن المعارضة ستتجنب الخروج من دون اتفاق، بينما المتشددون داخل حزبها سيتدخلون إذا رأوا إمكانية إلغاء بريكست تماماً. واتضح أنها كانت صائبة وخاطئة في الوقت ذاته، فقد تجنبت المعارضة بالفعل بريكست من دون اتفاق من خلال إجبارها على السعي لإطالة أمد التفاوض، لكن هذا لم يمكنها من التوصل لاتفاق بين مختلف الأطراف. وفي النهاية، تم التصويت بالرفض ضد اتفاقها للمرة الثالثة والأخيرة.
وبحلول الوقت الذي أصبح فيه بوريس جونسون رئيساً للوزراء، كان أنصار بريكست على استعداد للتنازل بخصوص نقطة محورية. وأقر اتفاق جونسون ما كان يستحيل تخيله في عهد ماي: حدودا جمركية وتنظيمية فعلية بين آيرلندا الشمالية وباقي أرجاء المملكة المتحدة. ومع أن التوقيت ليس كل شيء في عالم السياسة، فإنه في بعض الأحيان، مثل هذه الحالة، يكون العامل الأهم على الإطلاق.
مولد تحالف محافظ جديد. الآن، وصلنا لحفل الزفاف. ومثلما أوضح الخبير في استطلاعات الرأي والمحلل مات سينغ، فإن جذور الأغلبية الجديدة التي حظي بها حزب «المحافظون» في حالة بناء منذ فترة. ورغم افتقاده الكاريزما، نجح جونسون في شق طريقه بصورة عجزت عنها ماي. وقد استهدفت حملته هدفها بشكل محدد، الناخبون الذين يحتاج إليهم للفوز بأغلبية. ولطالما كان المحافظون بارعين في إعادة رسم صورتهم من أجل تحقيق مكاسب انتخابية. وفي هذا العام، نجحوا في إنجاز ذلك مرة أخرى.
كانت الخطوة الأولى اختيار جونسون زعيماً. بعد ذلك، اعتمد نجاحه على ثلاثة عناصر بدت مهتزة، لكنها صدمت ودعمته نهاية الأمر. وكان أول هذه العناصر موافقة أوروبا على إعادة التفاوض، وهو الأمر الذي تعهدت مراراً أنها لن تفعله. ومع ذلك، رضخت في النهاية. أما العنصر الثاني فهو أن جونسون كان يتعين عليه إقناع الجميع بأن خطر الخروج دون اتفاق واقعي وقائم، وهو الأمر الذي نجح فيه. وأخيراً، كان من الضروري أن يروج للرأي العام فكرة الخروج من دون اتفاق، وهو الأمر الذي كان الرأي العام بالفعل في التحرك باتجاهه.
وبالتأكيد يعتبر جونسون شخصية سياسية متميزة، خاصة اليوم بعدما فاز بمنصب العمدة مرتين وفي استفتاء بريكست وفي الفوز بزعامة الحزب، بجانب فوزه بأغلبية حاسمة في انتخابات عامة. وبالتالي فإن غريزته السياسية وشعبيته لا يمكن بأي حال التقليل منهما.
والآن بدأ الجزء الصعب من ملحمة بريكست، خاصة أن جونسون عمد مراراً إلى تضليل الناخبين بخصوص التكاليف والتحديات الحقيقية المرتبطة ببريكست، ووعوده بإبرام اتفاقات تجارية مستقبلاً، بل وحتى شروط اتفاق بريكست الذي توصل إليه. وفي لحظة ما، سينفجر كل هذا بوجهه.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
7:38 دقيقه
TT
المشهد السياسي البريطاني عام 2019
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة