يمكن وصف وضع الديمقراطيين الاشتراكيين عبر أرجاء الأجزاء الرئيسية من أوروبا على النحو التالي: في منطقتين، الدول الإسكندنافية وأيبريا، يعيشون على نحو جيد ومزدهر، بعد أن تحولوا إلى تيار الوسط البرغماتي أو، مثلما الحال في الدنمارك، اتخذوا مواقف يمينية متشددة حيال قضايا مثل الهجرة. وفي كل المناطق تقريباً ما بين الاثنتين ـ من فرنسا إلى هولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا ـ يمرون بحالات متفاوتة من الاضطراب أو التفكك ـ فماذا حدث؟ وهل هذا الانحسار أبدي؟
هذه التساؤلات التي يتعين على الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، الذي تأسس منذ 156 عاماً، أن يطرحها على نفسه اليوم، في خضم اجتماعه الأسبوع المقبل لاختيار قيادات جديدة واتخاذ قرار بشأن ما ينبغي على الحزب الخروج من الائتلاف مع الكتلة المحافظة التي تقودها المستشارة أنجيلا ميركل. إلا أن هذا التساؤل الوجودي لن يجري النقاش حوله، على الأقل بصراحة.
الملاحظ أنه خلال فترة بعد الحرب، شهد الحزب ارتفاعاً في أعداد ناخبيه وذلك بعدما تخلى عن أفكاره الماركسية لجذب جميع الألمان، وليس العمال فقط. بعد ذلك، ازدهر الحزب في السبعينيات في ظل قيادة اثنين من المستشارين المنتمين إليه، ويلي براندت وهلموت شميت الذي وعد برفع المزيد من المواطنين نحو الازدهار.
إلا أنه خلال الثمانينات والتسعينات، قاوم الجناح الآيديولوجي اليساري من الحزب، وجرى التقليل من أهمية جهود رفع مستوى معيشة المزيد من المواطنين، بينما أصبحت الرسالة الجديدة تحقيق المساواة وتقليص الفوارق بين الطبقات. وتراجع مستوى تأييد الحزب. ولفترة قصيرة، تفوق اليساريون على أنصار تذويب الفوارق عام 1998، ليدفع الحزب بالمستشار الثالث له، غيرهارد شرودر. إلا أنه منذ ذلك الحين، هيمن أنصار تذويب الفوارق خطابياً على الحزب. وتبعاً لاستطلاعات الرأي، يتحرك الحزب نحو مزيد من الانحسار خلال الفترة المقبلة.
وجرى أمر مشابه مع الحزب المناظر داخل فرنسا، الحزب الاشتراكي، الذي حظي بأغلبية مطلقة داخل المجلس الوطني عام 2012. وبعد ذلك انحسر بريقه لصالح حركة جديدة تماماً تنتمي لتيار الوسط يقودها الرئيس إيمانويل ماكرون، لكن لم يعد لها أهمية تذكر اليوم. أما شقيقه الإيطالي، الحزب الديمقراطي، والذي يشارك في الحكومة من جديد، لكن كشريك أقل حجماً بكثير مقارنة بالشعبويين. وفي محاكاة لماكرون، من المقرر أن يستقيل ماتيو رينزي، النجم السابق في الحزب، وسيشكل حزباً خاصا به.
من بين الدروس المستفادة هنا أن الديمقراطيين الاشتراكيين، على غرار الديمقراطيين داخل الولايات المتحدة، يبلون بلاءً حسناً في أي وقت ومكان يعدون فيه بتوفير الفرص، ويتراجع أداؤهم ويسوء عندما يتحولون إلى الوعظ. إلا أنه لم يعد أمامهم اليوم سوى ذلك. واللافت أن الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا يدعو اليوم لإعادة إقرار ضريبة على الثروة، رغم أنها جمدت في تسعينيات القرن الماضي لأنه كان من المتعذر للغاية تقييمها ولم تحقق سوى عائد ضئيل.
ويتمثل درس آخر في ضرورة الاستمرار في الاهتمام بالمجموعات الديموغرافية الجديدة التي تعاني بعض المظالم الملحة التي يجب إصلاحها، الأمر الذي يحاول الحزب الديمقراطي الاجتماعي فعله. وقد قضى شهوراً في جدالات ومشاحنات مع شركائه في الائتلاف لشهور من أجل زيادة أموال التقاعد للمتقاعدين أصحاب الدخول المنخفضة الذين دفعوا في النظام على مدار 35 عاماً أو أكثر ـ لكن لماذا ليس 34 عاماً؟ لا أحد يعلم. إلا أن الأمر الذي لم تجر مناقشته فهو عدم استدامة منظومة المعاشات برمتها والتي في إطارها سيدفع المزيد من الأفراد الأصغر سناً حصة أكبر من دخولهم لحساب أعداد أكبر من الأفراد الأكبر سناً. وكالعادة، يشعر الحزب بالحيرة بسبب عدم تحسن معدلات تأييده في استطلاعات الرأي.
بوجه عام، يبدو أن الفكرة الأساسية هنا أن الديمقراطيين الاشتراكيين ببساطة نضب معينهم من الأفكار والحلول. لقد خرجوا من رحم الثورة الصناعية الثانية عندما كان العمال يعانون حياة بائسة وغير آمنة داخل المصانع. ومن خلال النضال فقط من أجل الحق في أماكن عمل آمنة وإجازات مدفوعة الأجر، نجح الديمقراطيون الاشتراكيون في رفع مستويات معيشة الكثيرين. في المقابل، نجد أنه اليوم مع فجر الثورة الصناعية الرابعة، بدأت هذه الأجواء تتلاشى، بينما تنكمش النقابات العمالية، وبدأت الوظائف تنتقل إلى قطاع الخدمات. اليوم، أصبحت العقول أهم من القوى البدنية.
واليوم، يأتي الخطر الأكبر الذي يتهدد العمال ليس من «الرأسماليين»، وإنما من الذكاء الصناعي والميكنة وإنترنت الأشياء. وتظل بعض الوظائف منخفضة الأجر للغاية آمنة، وكذلك ستزدهر الكثير من الوظائف مرتفعة الأجر، لكن فيما بين الاثنين من الممكن أن تختفي كثير من المهن ـ خاصة تلك المعتمدة على الروتين أو اللوغاريتمات، سواء في التصنيع أو الإدارة.
وحتى هذه اللحظة، لم يتوصل أي شخص بالمجال السياسي إلى حلول مقنعة وشاملة لتحديين رئيسيين قائمين اليوم: تحقيق مصالحة وتوافق بين الاقتصاد والبيئة في ظل كوكب حرارته آخذة في الارتفاع، وضمان التناغم الاجتماعي في ظل تحرك التكنولوجيا باتجاه منافسة الذكاء البشري. ومع أن هناك من يعكفون على دراسة هذين التحديين وكيفية التصدي لهما، فإنه ليس من بينهم الديمقراطيون الاشتراكيون.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»