وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

رسائل الكوثري.. عُمرٌ مضى في الدِّفاع عن أبي حنيفة

صدر حديثاً كتاب “رسائل الإمام زاهد الكوثري إلى العلامة محمد يُوسف البِنُّوري”، جمع الباحث سعود بن صالح السَّرحان وتحقيقه. قَدم للكتاب محمد بن عبد الله آل رشيد، وقد حصل السَّرحان على الرَّسائل مِن مكتبة الأخير. في مثل هذا الفن ظهر العديد مِن الكتب المعتبرة، كرسائل الكرملي إلى أحمد تيمور (ت 1930)، وأدب الرسائل بين أنستاس ماري الكرملي (ت 1947) ومحمود شكري الآلوسي (1924)، ناهيك عن رسائل عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، رسائل الصَّابي (384 هـ) والشَّريف الرَّضي (ت 406 هـ)، رسائل أبي العلاء المعري(ت 449 هـ)، رسائل أبي حيان التوحيدي (ت 414 هـ) وغيرها الكثير.

بلا شك للرَسائل أهمية وثائقية ومعلوماتية، قد تفوق كتب التَّاريخ، ويحدد محققها في مقدمته الفرق ما بين الرَّسائل والمكاتبات وسائر التَّأليف ومن شروحات وتعليقات قائلاً: “إن الرسائل الشَّخصية تمتاز عن الكتب التي يؤلفها هؤلاء العلماء بكونها تعكس، بصورة أوضح، جوانبهم الإنسانية، فهم يكونون في رسائلهم الشَّخصية أكثر بوحاً مِن الكتب العلمية التي يؤلفونها، هذا البوح يحمل في أغواره العميقة العديد مِن الأسرار الشَّخصية والجوانب النَّفسية، التي يحتاجها الباحث لفهم السياقات المختلفة، التي تختبئ خلف الكلمات”.
وبالفعل تقرأ في الخمس وأربعين رسالة، التي بعثها الكوثري إلى أحد العلماء الهنود السيد محمد بن يوسف البنُّوري (ت 1977) هواجس وانفعالات شخصية، تُبين كيف أن الإمام محمد زاهد الكوثري (ت 1952)، على الرّغم من وظيفته المرموقة في السَّلطنة العثمانية رئيسا للمدرسين، ووكيلا للمشيخة الإسلامية باستانبول، ضاقت عليه الحياة عندما طلب منه صاحب الدَّار بالقاهرة أن يُخليها على وجه السّرعة، فيبدو أن الرَّجل بعد أن ترك دار السلطنة لم يدخر شيئاً. ومع تواضع الحال، إلا أنه رفض عرضاً للتعيين في مكان يتناسب مع علمه وقدرته، متعذراً بأن الظَّرف لم يمكنه من الحفاظ على ما عُرف به، ولا يريد لصورته أن تهتز أمام مريده.

تُقدم رسائل الكوثري مخفيات في حياة العلماء، وأسرار تأليف الكتب، ففي مقدمة الرسائل تجد لموضوع واحد كاتبين، تحت عنوان “الكوثري وتعليقاته”، فمرة ورد بتوقيع محمد نصيف، وأخرى بتوقيع محمد بهجة البيطار، والناشر واحد، وفي عام واحد (مجلة الرابطة العربية المصرية 1938)، وظهر من الرسائل أن نصيف كان قد نسخه فورد اسمه عليه، والكتاب كان ضد الكوثري.

نفهم مِن رسائل الكوثري أن الرَّجل كان شديداً مع نفسه، فلا يقبل أي هدية أو مساعدة، حتى من أقرب الناس منه، على الرغم من شظف العيش، فليس لديه من مورد سوى ما يأتيه من كتبه، وهو لا يكفي لحياة هانئة لعالم مثله. لهذا كان تعامله مع صديقه الحميم ومريده البنُّوري في الشأن المالي عبر الكتب، أي إذا طلب منه كتاباً يكون الكوثري أرسل إليه بمجموعة مِن كتبه، حتى انه في إحدى الرسائل حسب لصاحبه ثمن الكتب والبريد وما تبقى خمسة وستين قرشاً تنازل له عنها!

نتعرف من خلال الرسائل على عدد كبير من عناوين الكتب العلمية والفقهية، والردود، وعلى أسماء فقهاء وباحثين، يأتي ذكرهم في رد عليهم أو سؤال عن حال أو الحاجة لكتاب، وكذلك تكشف الرسائل عن سلوك بعضهم، ومدى تعصبه لمذهب من المذاهب، أو ضعف في الرواية والتأليف، وهذا ربما لا يفضح هذا في تأليف الكتب أو المقالات.

نفهم من الرسائل أيضاً أن الشيخ الكوثري، المولود بتركيا والمتحدرة أسرته من بلدة تسمى بالكواثرة بالقوقاز وهو شركسي الأصل، كان يقف ضد دعاة اللامذهبية، فهو القائل: “وهؤلاء اللامذهبية أساءوا في سعيهم في تفريق كلمة المسلمين، وإن كان هذا يستساغ بعض استساغته في مسائل الفروع فلن يُستساغ في مسائل الاعتقاد، وكأنه يقول إن مشكلة المسلمين ليست في المذهبية، إنما في توظيفها، وكان في دفاعه عن مذهبه وإمامه أبي حنيفة، يعاني من وطأة المذهبية، لأن إلغاءها ضرب من ضروب الخيال واللامنطق. بل نجدها قامعة لبقية المذاهب، فالمسلمون لا بد أن يتعبدوا في الفروع أو يعتقدوا في الأُصول على مذهب من المذاهب، وهذا واقع الحال.
يذكرنا ذلك بكتاب مصطفى الشَّكعة (ت 2011)، “إسلام بلا مذاهب”، الذي صدر أول مرة بمصر العام 1960، لكن ما أن تبدأ بقراءة الكتاب، حتى تراه كله سائرا في المذهبية، فهو لم يعمل شيئا سوى بحث في تاريخ المذاهب، وربما كان القصد المذهبية لا المذاهب، فيبدأ في بحث مقالات المذاهب.

بعدها، نلاحظ أن الشَّيخ محمد زاهد الكوثري حرق جلَّ عمره في الدِّفاع عن مذهبه الحنفي وإمامه أبي حنيفة النُّعمان (ت 150 هـ)، من دون الطَّعن بالآخرين، لكني أواخذه في الطعن على المعتزلة بشدة في كتابه “فقه أهل العِراق وحديثهم”، وعلى وجه الخصوص على فيلسوفه إبراهيم بن سيار النَّظام (ت نحو 231 هـ) وهذا موضوع آخر.
وفي دفاعه عن أبي حنيفة صنف كتاب “تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب”، فعندما تطالع كتاب الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) “تاريخ بغداد” تلاحظ أنه ضمن كتابه مثالب ضد الإمام أبي حنيفة، زادت على الفضائل التي أوردها في الكتاب نفسه لذر الرَّماد في العيون، وقد استغرقت المثالب جلَّ الجزء الثالث عشر من تاريخ الخطيب، بل المثالب نفسها إذا ما استلت صفحاتها لكانت كتاباً مستقلاً.

يغلب على ظني أن طائفية الخطيب ضد أبي حنيفة نشأت لسبب سياسي، فهو الشَّافعي في الفروع والأشعري في الأُصول، كانت القضية لها صلة بتوجه السَّلاجقة وتحولهم من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي، وفي النزاع بين البويهيين والسلاجقة، فالمعتزلة في الزمن البويهي استرجعوا وجودهم ودورهم في الحياة الفكرية، مثلما كان الحال عليه في زمن عبد الله المأمون (ت 218 هـ) بعد ضربهم مِن قِبل جعفر المتوكل (ت 247 هـ)، فتوجه وزير السلاجقة نِظام المُلك (اغتيل 485 هـ) إلى إيجاد مؤسسة علمية ذات المذهب الواحد والعقيدة الواحدة (الشَّافعي الأشعري)، وهي المدرسة النِّظامية. أرى أن دافع البغدادي كان سياسياً أكثر منه طائفياً.

تعطينا رسائل الكوثري، وفق دفاعه عن أبي حنيفة ومواجهته مع بقية فقهاء المذاهب السُّنَّية الاُخر؛ إن النزاع الطَّائفي لم يُحصر بين السُّنَّة والشِّيعة، إنما إذا حركته أسباب سياسية يظهر في داخل السُّنَّة وفي داخل الشِّيعة أيضاً، والمجال لا يسمح في التبسط بهذا الموضوع، وكذلك لا يسمح بعرض نقاط الخلاف مع أبي حنيفة في قضية الاستحسان والقياس وميله إلى الرأي أكثر من النَّقل. ما نريد قوله، وكتبناه في أكثر مِن مقال وكتاب، أن الإمام أبي حنيفة كان يمتلك قدرات فكرية يحتاج إليها العصر الحالي أكثر من عصره، كموقفه المنفتح من الأديان الأُخر، وموقفه من المرأة، وهما أمران مهمان في حياة المسلمين في العصر الحاضر وعلاقتهم بالآخر.

هذا، وننتهي إلى القول إن كتاب “رسائل الأمام محمد زاهد الكوثري”، الذي بين أيدينا، فيه ما يسد للباحثين بشأن المذاهب وتاريخ الافتراق والوفاق بينها ثغرات عدة، بل نجده حاوياً لأسماء الكتب النَّادرة، وأن متونه وحواشيه جاءت غنية بالسير الشَّخصية للعديد من العلماء والفقهاء. فمحقق الكتاب بذل جهده وحرص أن يضمن حواشيه بما لم تفته شاردة أو واردة، وكأنه صنع بها كتاباً آخر، وكنت أول المستفيدين. وما استرعى التفاتي هو أن هذا الرَّجل، أي الكوثري، بذل جلَّ عمره مدافعاً منافحاً عن إمامه وإمام أهل العِراق أبي حنيفة، وقضية الخصومة معه لم تكن حديثة، بل هي أقدم مِن زمن الخطيب بكثير، فنجد القاضي عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ)، وهو من تلاميذه، يقول مدافعاً: