عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

تقلبات المناخ من البندقية إلى الرياض

مع نهاية كل عام تعلن القواميس الإنجليزية البارزة مثل «أوكسفورد» و«كامبريدج» و«كولينز» و«ميريام ويبستر» عن اختيار كلمات معينة تمنحها لقب «كلمة العام». وعادةً ما تكون هذه الكلمات قد اُختيرت لأنها دخلت القاموس وتركت تأثيراً معيناً، أو جرى تداولها بوتيرة عالية في قضايا محددة، أو أنها تعبّر عن اهتمامات جديدة، أو تلخص أهم ما جرى خلال العام. من هنا برزت كلمة «نوموفوبيا» مثلاً باعتبارها كلمة عام 2018 وفق اختيار قاموس «كامبريدج»، وتعني «الخوف من فقدان الجوال». أما قاموس «أوكسفورد» فقد اختار كلمة «سامة» باعتبارها كلمة العام لتزايد وتيرة استخدامها في وصف أشياء متعددة مثل بيئة سامة أو علاقة سامة أو ثقافة سامة على سبيل المثال لا الحصر. في أميركا وقع اختيار قاموس «ميريام ويبستر» على كلمة «عدالة» باعتبارها كلمة 2018 لارتفاع وتيرة استخدامها خلال العام في الحديث عن العدالة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية، والعدالة القانونية، والعدالة بين الأعراق.
قبل أيام أعلن قاموس «كولينز» الإنجليزي عن اختيار «إضراب المناخ» باعتباره كلمة عام 2019. وهو اختيار لم يأت من فراغ بالتأكيد، بل كان ترجمة للاهتمام المتزايد حول العالم بقضايا البيئة وكوارث المناخ. فالكلمة مأخوذة من حركة إضرابات المناخ الواسعة التي شهدها العالم خلال العام الماضي لتسليط الضوء على موضوع البيئة وللضغط على الحكومات لتكثيف جهودها وتعاونها لمواجهة أحد أكبر المخاطر التي تهدد البشرية. وقد بلغت الحركة نقطة مهمة في سبتمبر (أيلول) الماضي عندما شارك قرابة 8 ملايين شخص حول العالم في أسبوع «إضراب المناخ» الذي يعود الفضل فيه للطالبة السويدية غريتا ثنبيرغ، التي أصبحت رمزاً لصرخة الأجيال الجديدة في المطالبة بجهد عالمي لمواجهة أزمة البيئة والمناخ. فغريتا البالغة من العمر 16 عاماً كانت بدأت العام الماضي إضراباً عن الدراسة يوماً في الأسبوع تذهب فيه للوقوف أمام مبنى برلمان بلدها احتجاجاً على أزمة البيئة ولمطالبة السياسيين بالتحرك الجاد لدرء الخطر الذي يهدد العالم كله وليس فقط بلدها.
عندما بدأت غريتا احتجاجها الفردي لم يخطر على بال أحد أنها ستُلهم حركة واسعة بين أبناء وبنات جيلها، وستشد اهتمام الإعلام والسياسيين، أو أنه ستوجّه إليها الدعوات لمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة وقمم المناخ. صحيح أن غريتا لم تخترع كلمة «إضراب المناخ»، إذ إن التعبير استُخدم لأول مرة في أنشطة احتجاجية نُظمت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 تزامناً مع قمة المناخ في باريس، لكنها أعطت للكلمة روحاً جديدة ونفساً شبابياً لقي تجاوباً واسعاً حول العالم. فقد أعلن المسؤولون عن قاموس «كولينز» أنهم سجلوا ارتفاعاً بمعدل مائة ضعف في استخدام تعبير «إضراب المناخ» خلال العام الجاري، وهو ما انعكس أيضاً في تمدد حركة الاحتجاجات الشعبية حول العالم للتنبيه إلى الخطر المتزايد على البيئة والتأثيرات الكارثية الناجمة عنه.
تأكيداً للتغير في المزاج العام تمكن الإشارة إلى أن هذه هي المرة الثانية خلال عامين التي تقفز فيها كلمة أو تعبير متصل بقضية المناخ إلى الصدارة. ففي 2018 اُختير تعبير «أحادي الاستخدام» كلمة العام لقاموس «كولينز»، ويرمز للأوعية ومواد حفظ المأكولات والمشروبات المصنّعة من البلاستيك والتي تُستخدم مرة واحدة ثم تُرمى لتنتهي كميات هائلة منها في مياه البحار والمحيطات محدثةً أذى كبيراً للبيئة.
وحتى من ضمن الكلمات التي دخلت القائمة القصيرة لكلمة عام 2019 كانت هناك كلمة «استعادة النظام البري»، بمعنى إعادة أرض أو منطقة إلى الطبيعة البرية مرة أخرى لتشجيع نمو نباتات برية أو عودة حيوانات مهدَّدة، للحياة فيها. وترتبط هذه الكلمة بما يقوله كثير من المهتمين بالمناخ حول ضرورة تخصيص مساحات متزايدة من الأراضي للحياة البرية بهدف استعادة التوازن المفقود وإنقاذ البيئة ومعها البشرية. وكمثال على ذلك ذكر مختصون أن إعادة ربع مساحة بريطانيا إلى الطبيعة البرية سيؤدي إلى امتصاص 47 مليون طن سنوياً من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي.
هذه المقترحات يجري تداولها بشكل متزايد باعتبارها من الخطوات السهلة في أي جهود لمواجهة أزمة المناخ. فبريطانيا على الرغم من انشغالها بقضية «بريكست» في الحملات للانتخابات العامة المقررة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، فإن قضايا المناخ تجد مكاناً أيضاً ضمن الأولويات في برامج الأحزاب المتنافسة في الانتخابات. فمثلاً تعهدت جو سوينسون زعيمة الحزب الليبرالي الديمقراطي، بأنهم لو فازوا في الانتخابات سيزرعون 60 مليون شجرة سنوياً في إطار برامجهم من أجل البيئة. كذلك أعلن المحافظون والعمال عن وعود وبرامج، دعماً للبيئة وخفضاً لانبعاثات ثاني لأكسيد الكربون. في الوقت ذاته أطلقت صحيفة «الميرور» حملة لزراعة مليون شجرة في بريطانيا ودعت قراءها للمشاركة، معلنةً أنها ستوزع مجاناً 20 ألف شتلة فوراً لمن يريد. وتجيء هذه الحملات في أعقاب حملة شبكة تلفزيون «سكاي» لتنظيف الشواطئ من بقايا البلاستيك التي تدمّر البيئة البحرية، وفي وقت بدأت قناة «بي بي سي» تبث حلقات جديدة لديفيد أتنبرا أشهر نجوم برامج الطبيعة والبيئة في العالم، تحت عنوان «سبعة عوالم»، وتحمل في طياتها وفي تعليقاته رسالة قوية بشأن التغيرات المناخية وتأثيراتها السالبة التي تؤدي لانقراض حيوانات ونباتات وتؤثر بالتالي على توازن البيئة وحياة البشر.
هذه مجرد أمثلة من أنشطة كثيرة تنظمها جمعيات أهلية، أو مؤسسات عامة حول العالم للمساهمة في إنقاذ البيئة ووقف الاندفاع البشري نحو كوارث أكبر وأخطر. فالاحتباس الحراري واضطرابات المناخ ليست فقط مسألة بيئية واقتصادية وسياسية، بل أيضاً ثقافية وحضارية. وتكفي رؤية مدينة البندقية الإيطالية غارقة تحت مياه الفيضانات بعد أمطار غزيرة غير مسبوقة، ورؤية جزء من التراث العالمي في المدينة مثل ميدان سان ماركو التاريخي مهدداً بالفقدان للتأكد من أن تغييرات المناخ وصلت إلى مستوى لم يعد من الممكن التهوين منه. وطبعاً يشعر سكان منطقتنا بتأثير التغييرات المناخية عبر أنماط غير مألوفة من الطقس مثل أمطار غزيرة في غير موعدها، وجفاف في مناطق أخرى، وأعاصير مفاجئة. فمن الرياض إلى البندقية، ومن الإمارات إلى أستراليا، ومن كاليفورنيا إلى اليابان يأبى المناخ إلا أن يذكّرنا بأن البشرية مسؤولة عن الطبيعة وليس العكس.