نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

«الإفرنجي برنجي»... في البيئة أيضاً!

من العادات السيئة في منطقتنا أن الناس عادة ما يثقون أكثر بكل ما هو مستورد. وهذا ينطبق على الثياب والأدوات المنزلية والمأكولات والكماليات، حتى إذا وُجد بديل لها مصنَّع محلّياً. ويستخدم العامة عبارة من أصل تركي للتعبير عن هذا، هي: «الإفرنجي برنجي»، و«برنجي» تعني الأجود والأحسن.
عقدة الأجنبي تنسحب اليوم على البيئة. فكلما وقع المسؤولون في مشكلة، يستحضرون خبراء أجانب لوضع حلول سحرية. فمن أجل معالجة الروائح الكريهة من النفايات المتعفنة، نستحضر خبيراً فرنسياً يقترح رش الروائح العطرية عليها. وحين تشح إمدادات المياه، يقترح الخبراء «الدوليون» بناء سدود، ليتبين أنها تقع فوق فوالق زلزالية، عدا عن أنها تقضي على ثروات حرجية هائلة. وفي حالات كثيرة، يقبل المسؤولون تنفيذ مقترحات مفيدة، فقط لأنها جاءت من خبراء أجانب، بعدما كانت قوبلت بالرفض حين اقترحها خبراء محليون قبل سنوات طويلة.
وليس أدل على التخبط في الأفكار مما حصل خلال السنوات العشر الأخيرة، حول تمرير خطوط للكهرباء ذات التوتر العالي فوق منطقة سكنية في لبنان، وهي ضرورية لربط الشبكة. فهل يتم اعتماد الحل الأرخص بتركيبها فوق السطوح، أو الحل الأكثر كلفة بتمريرها تحت الأرض؟ وبعد سنوات من النقاش، كان لا بد من الاستعانة بخبراء أجانب، قبل فرض تركيبها فوق السطوح.
«حوار الطرشان» هو الوصف الأكثر تعبيراً عن النقاشات التي رافقت الموضوع، التي غالباً ما اختلطت فيها السياسة بالهواية والمصالح، وكان أبطالها نواباً ووزراء وأساتذة جامعيين ومواطنين.
الأهالي نظموا مظاهرات احتجاج في الشوارع بهدف إيقاف العمل، خوفاً من آثار الحقول المغناطيسية على صحتهم؛ لكن المسؤولين حاولوا تمرير الحل الأرخص، تحت غطاء تقارير انتقائية. وزيرة الطاقة أكدت أن لا ضرر من خطوط التوتر العالي. رئيس لجنة الطاقة النيابية أبرز تقريراً من مؤسسة الكهرباء الفرنسية، يذهب إلى أنه ليس هناك ما يثبت أن للحقول الكهرومغناطيسية آثاراً سيئة على الصحة. مسؤول في مؤسسة كهرباء لبنان كشف عن مواصفات كندية تقول إنه يكفي لخطوط التوتر العالي بقوة 220 كيلوفولط أن تبعد عن الناس مسافة لا تزيد على خمسة أمتار، من غير أن يوضح ما إذا كان هذا مسموحاً فوق الطرقات فقط؛ حيث يمر الناس بشكل عابر، أم فوق المنازل والمدارس أيضاً؛ حيث يقضي الناس معظم أوقاتهم. طبيب من المنطقة «المنكوبة» قال إن الموجات الكهرومغناطيسية «تؤدي إلى إصابات بالسرطان بنسبة 25 في المائة».
استمر حوار الطرشان، ولم يتفق المتجادلون على شيء؛ لأن كلاً منهم مخطئ على طريقته. فالادعاء أن ليس هناك «ما يثبت» أن للحقول المغناطيسية آثاراً سيئة على الصحة، يذكِّر بما كانت تروجه شركات التبغ قبل ثلاثين سنة، من أنه ليس هناك ما يثبت تسبب التدخين في الأمراض. خلال سنوات النقاش العقيم، وإلى أن فرضت الحكومات قيوداً على التدخين واعترف الجميع بأضراره على الصحة، مات ملايين من المدخنين، بينهم مَن كان إنقاذه ممكناً. فهل علينا أن ننتظر ثلاثين سنة أخرى لنتثبت من أن الحقول المغناطيسية ضارة؟ وإطلاق تحذيرات تخويفية من نوع تسبب خطوط التوتر العالي «بنسبة 25 في المائة من إصابات السرطان»، هو وصف عام لا يعني شيئاً بمقاييس العلم. وقد يكون الأصح القول إن دراسات أظهرت زيادة في خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان تصل إلى 25 في المائة، في مناطق قريبة من خطوط التوتر العالي.
في محاولة للخروج من المأزق، طلبت وزارة الطاقة من الاتحاد الأوروبي إعطاء رأي علمي في الموضوع: هل من إثباتات أكيدة أن خطوط التوتر العالي تضر، أم لا تضر، بالصحة؟ الخبير الأوروبي قال إن لا إثباتات أن التوتر العالي يضر بالصحة. وما تسمى «إثباتات» هنا تقوم على إحصاءات، هي في الواقع غير متوفرة، لعدم وجود عينة كافية من الناس الذين يسكنون على بعد خمسة أمتار فقط تحت خطوط التوتر العالي في أي مكان في العالم. وعند سؤال الخبير: هل يتم تركيبها فوق البيوت في بلده؟ وهل هو على استعداد لأن يسكن تحتها؟ أجاب بالنفي؛ لكن المسؤولين فضلوا الاستماع إلى جزء واحد من الجواب. وكان من الأجدى سؤال الخبراء: هل هناك دليل على أن خطوط التوتر العالي لا تتسبب في مخاطر صحية؟
وينسحب الأمر نفسه على المؤتمرات التي تُعطى صفة «دولية»، لمجرد حضور نفر من المشاركين الأجانب ذوي العيون الزرقاء، ولو كانوا جميعاً من المغمورين. أو الذين يسجلون شركة في سويسرا، مركزها أحد مكاتب المحامين، ويسمونها «المنظمة العربية الأوروبية» لكذا وكذا. ناهيك عن الصحافي الذي يكتب مقالاً يبدي فيه دهشته وإعجابه بنتائج تقرير عن البصمة البيئية في العالم؛ لأنه جاء موقعاً من مجموعة أجنبية. وهو نفسه كان قد كتب بازدراء وتشكيك عن تقرير في الموضوع عينه صدر قبل سنوات طويلة، عن منظمة عربية مختصة، توصل إلى النتائج نفسها، محذراً من أن البلدان العربية تستهلك ضعف ما تنتجه من موارد، وترمي ضعف الفضلات التي يمكن للنظام الطبيعي استيعابها.
من الجيد الاستفادة من كل الخبرات المفيدة، في أي مكان في العالم؛ لكن الأجدى الاستماع أولاً إلى الخبراء المحليين. أما عند الاستعانة بخبراء أجانب، فمن الضروري مناقشة مقترحاتهم بذكاء، ومقارنتها بغيرها، وعدم انتقاء ما يناسب المسؤولين منها فقط، ومن ثم تسويق الحلول بناء على الادعاء أن «الخبير الدولي» نصح بها.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»