يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

من سوريا والعراق إلى لبنان: جدران الملالي المنهارة

لا يمكن عزل الإجراءات العقابية التي وقعها الرئيس ترمب على طهران عن واقع جديد يتكشف الآن، وتظهر انعكاساته العميقة بوتيرة متسارعة: اندلاع احتجاجات العراق، والاجتياح التركي لسوريا وسط تململ الملالي وسخطهم، وصولاً إلى ما يحدث في لبنان اليوم، من التصعيد في الشارع اللبناني بكل مكوناته، دون اكتراث بصيحات نصر الله وتهديداته التي أكدت عمق «أزمة» دولة الميليشيا التي يحاول حمايتها، ولو على حساب لبنان الدولة التي لم يعد أهلها يحتملون تلك الازدواجية، وحالة العسكرة المديدة التي ساهمت في تردي الاقتصاد، وهروب رؤوس الأموال والمستثمرين والسياح.
ورغم الانتقادات الواسعة المبرّرة تجاه حالة الارتباك في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، من داخل الولايات المتحدة وخارجها، فإن ترمب لا يزال مصراً على أن سياسات واستراتيجية الإرغام عبر العقوبات والانسحاب العسكري ستؤتي أكلها، وتحتاج إلى مزيد من الوقت لتثبت فعاليتها. هذه الاستراتيجية لم تكن وليدة لحظة ترمبية متعجلة، وإن كان سلوكه في التعبير عنها عبر منصة «تويتر» يوحي بذلك، فما يفعله هو جزء من روزنامة طويلة تعود خلفياتها إلى طروحات فكرية وفلسفية لتيار المحافظين لتأسيس «المصلحة الوطنية» التي نظّر لها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود إريفينغ كريستول، والتي من بين مرتكزاتها الالتفات إلى الداخل، والتحلّي بالواقعية والبراغماتية فيما يخص الشؤون الخارجية. وقد ازدادت لاحقاً الطروحات الداعمة لتلك الاستراتيجية، مع شخصيات ورجال دولة مؤثرين كديسيلي وبسمارك وكيسنجر، وغيرهم من الذين ساهموا بالتمهيد لصعود الذاتية السياسية التي كان لها دور كبير في تعزيز شعبوية ترمب السجالية وصعودها. تلك الرؤية الواقعية كانت تؤكد عدم فاعلية استخدام القوة الأميركية خارج الولايات المتحدة، وأن المثالية والتفرّد والعصر الأميركي لم تكن سوى شعارات مهّدت لفشل كبير في الشرق الأوسط، لا سيما بعد ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق، الذي كان بداية لتطوير سردية فشل استراتيجية العسكرة، ونهاية عصر السيادة.
وفقاً لذلك، فإن كل ما يدور حول استفادة إيران من الانسحاب الأميركي، وصعود مشاريع رغبوية في السيطرة على المنطقة، كالمشروع التركي، واحتمالية عودة انبعاث الإرهاب من قبل تنظيم داعش، هو وجهات نظر لا تقدم سوى نصف الحقيقة المتصل بدوافع تلك الأطراف التي تحاول أن تملأ الفراغ الأميركي ما بعد الانسحاب، لكنها تتجاهل النصف الآخر الأكثر تأثيراً، وهو أن تلك القوى مهما حاولت جاهدة لن تستطيع سوى خلق المزيد من دوامة الفوضى، والغرق في دوامة من الفشل في إدارة الأوضاع، كما رأينا في سوريا التي استباحها الملالي لتثبيت نظام الأسد، لكن ذلك، بعد مضي كل هذه السنوات، وتراجع حضور «داعش»، لم يكن إلا شعاراً براقاً وغير واقعي على المدى القريب المنظور. فكل ما يملكه النظام اليوم هو محاولة التفاوض مع الأكراد، والحد من توسع تركيا، وإيجاد حالة من التوازن داخل مساحة الأراضي التي يسيطر عليها، دون التفكير في توسيع دائرة الحرب للحصول على ما يزيد على 40 في المائة من البلاد، في ظل شحّ الموارد واختناق الاقتصاد الإيراني. وهو ما أطلق نذر الهلع في الداخل الإيراني، الذي ربما كثفته عبارة أحمد خاتمي في واحدة من خطبه، حين حذر روحاني من التعثر في الفخّ الأميركي، وهو ما يعني أن ليس أمام إيران الكثير لتفعله في ردع شره إردوغان الذي يشعر بكثير من جنون العظمة، المتمثل في تصريحاته اللفظية التي يحاول عبرها خلق شعور قومي في الداخل الذي خذله منذ وقت ليس ببعيد في أهم المدن التركية.
الهيمنة الإيرانية المتخيّلة لا تجد ما يشفع لها على الأرض والواقع في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لذلك تعمل على محاولة نقل الصراع إلى مدى أوسع عبر إشعال المنطقة، وهو ما يفسر الدوافع الأساسية لتهور الملالي باستهداف خطوط الملاحة الدولية، ومنشآت النفط في السعودية، كمحاولة لتغطية الفشل في تسيير الأوضاع رغم تجليات الهيمنة السياسية التي تقودها في العراق، والتي آلت إلى حكومة فساد انتفض عليها بالأمس القريب الشارع العراقي، وفي مقدمته المكوّن الشيعي غير المسيّس. وهي النتيجة ذاتها في احتجاجات لبنان اليوم، الذي يحاول الخروج من تبعات تلك الهيمنة الإيرانية، لكن عبر ترحيل المشكلة، وإلقاء الاتهامات الصبيانية على السعودية وحلفاء الولايات المتحدة، أو من خلال إطلاق الشعارات التي لم تعد تخدع أحداً.
وفي الشأن اللبناني، تتكرر القصة بشكل أكثر مأساوية منذ أن هيمن «حزب الله»، وكيل طهران، على الحالة السياسية، أو ما سمّي بـ«العهد القوي» الذي بلغ مداه في اللامبالاة بالسيادة الوطنية، بفرض تشريحاته السياسية، وعرقلة تشكيل الحكومة، وصياغة القانون الانتخابي بهدف السيطرة على الأصوات الشيعية، والتحالف مع الكتل المسيحية، في مقابل إضعاف وتهميش كل القوى اللبنانية التي لم تزل تعاني منذ أن تسبب «حزب الله» في تحويل لبنان من مشروع إنمائي واعد في 2005، قبل اغتيال الرئيس الحريري، اللحظة الفارقة في تاريخ لبنان المستقل، إلى عاصمة يخرج أهلها للتظاهر من أجل «النفايات»، كنتيجة حتمية لمسلسل طويل من العبث الإيراني الذي لم تمتد أصابعه إلى أي من البلدان العربية إلا وكانت النتيجة صعود منطق الميليشيا والعسكرة، وتدريب وتسليح ورعاية توائمه الآيديولوجية كالحوثيين، على أي أصوات للاعتدال والرفاه والبناء والمستقبل.
ومهما بدا أن دورات اقتصاديات الميليشيا تسعى إلى استقلال ذاتي، ومحاولة الخروج من دورة الحياة الطبيعية للاقتصاد، فإن فشلها وانكساراتها سريعة وكارثية مع أي اختبار حقيقي، كالعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، وفق استراتيجية الإرغام التي تظهر آثارها. فهيكلية بناء الميليشيات على المستوى الاقتصادي ليست بأقل فشلاً من رؤيتها السياسية، حيث تقوم على الصفقات المشبوهة والفساد وعرقلة كل مشروعات لا يمكن السيطرة عليها، لا سيما بعد تعثر مداخيلها المباشرة من قبل داعميها من طهران.
وبحسب إحصاءات التقارير الدولية، فقد «حزب الله» جزءاً كبيراً من منح الملالي التي كانت تبلغ مليار دولار سنوياً، تقدم بشكل مباشر، ومن خلال التبادل والاستثمارات الدولية الملتوية، وشبكة واسعة من المانحين السريين، وأنشطة تبييض الأموال. وتلك المسارات باتت اليوم، مع الإجراءات الصارمة تجاه الدول المتساهلة مع إيران بشكل انتفاعي، أكثر عسراً، حتى من محاولة إقناع الجماهير الغاضبة بالكلمات!