داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الرصاص الحي لا يخترق الاحتباس السياسي

بين فترة وأخرى يفاجأ الناس في مختلف الدول بمصطلحات علمية جديدة تدخل القاموس اليومي من دون مقدمات وبتفسيرات محدودة لا تفهمها إلا النخب العلمية.
ففي عائلة: «لوجيا» هناك «ليكسيكولوجيا» أي علم القواميس، و«مورولوجيا» أي علم الجنون، و«كرتولوجيا» أي علم الخرائط، و«خرونولوجيا» أي علم توالي السنين، و«غسترولوجيا» أي علم الطبيخ، و«تخنولوجيا» أي علم الفنون العملية، و«هيرولوجيا» أي علم المقدسات، و«ترمنولوجيا» أي علم استعمال الكلمات، و«تاناتولوجيا» أي علم الموت، و«كالولوجيا» أي علم الجمال، و«جورنولوجيا» وهو علم الصحافة التي نكتب فيها ونموت بسببها بالسكتة الدماغية!
ومرّت بنا منذ سنوات لم أعد أتذكرها مصطلحات طربنا لها، واستخدمناها في كتاباتنا اليومية بسبب أو من غير سبب لإثبات «ثقافتنا» الموسوعية! ومن تلك المصطلحات البراغماتية والبيرونية والاستقراء والاستنباط والصيرورة والكينونة والتكنوقراطية والسريالية والشخصانية والطوباوية والطوطمية والميتافيزيقية. وكان أحد زملاء المهنة في بغداد يكثر من استخدام هذه التعابير في مقالاته السياسية التي تُربك المذيع وهو يقرأها في برنامج «أقوال الصحف».
ومنذ سنوات قليلة وصلنا إلى مرحلة «الاحتباس الحراري» وهو مصطلح إنجليزي Global Warming، وبتنا نسمع هذا المصطلح في محاضرات عن هندسة المدن الجديدة أو البيئة أو المناخ أو الطيران أو السكان أو الفضاء. وباستخدام علم «اللوذعية» صار متاحاً اللجوء إلى تعبير «الاحتباس» في حديث عن أزمة ازدحام الشوارع «الاحتباس المروري»، أو «الاحتباس الخليجي» في مقال عن التهديدات العدوانية الإيرانية في مضيق هرمز، أو «الاحتباس الوزاري» في مقال آخر عن أزمة وزارية، أو «الاحتباس المالي» عن أزمة مالية، أو «الاحتباس الأخلاقي» عن أزمة سلوكيات عامة.
ومن الأخلاق أدلف إلى السياسة فوراً. أصدق تعبير عما يجري في العراق اليوم هو «احتباس سياسي». وهو وصف دقيق لعجز الحكومة والشباب عن حل «ثورة الاحتجاجات» التي أطلق عليها الشباب المتظاهر لقب «ثورة أكتوبر». وهو وصف دقيق أيضاً لعجز القوى الأمنية والعسكرية والميليشياوية عن القضاء على الهيجان الشعبي العراقي ضد الفساد والفقر والتدخلات الإيرانية المسلحة وغير المسلحة في الشأن العراقي من مناهج الكتب إلى تصدير النفط إلى القواعد الأميركية. حتى رجال الدين أصيبوا باحتباس سياسي كشف استخدامهم للعمائم لإجهاض أحلام الشباب بوطن حر آمن وحياة كريمة بدلاً من الجوع والحرمان والجهل واللطم والمسيرات الجنائزية على الطريقة الفارسية الدموية. فهؤلاء الفتيان والشباب لم يطالبوا بتعيينهم في السفارات العراقية في الخارج كما هو الحال مع أولاد المسؤولين وأقاربهم، ولا طالبوا ببناء منتجعات سياحية لهم بدلاً من أكواخهم المتداعية.
لو كان رئيس الوزراء اتخذ قبل بدء الاحتجاجات قراراته الأخيرة بتوزيع أراضٍ وتقديم قروض وتوفير فرص عمل، على ندرتها، كان يمكن ألا يحدث ما رأيناه ونراه من عنف ودماء من جانب القوات الأمنية والميليشيات ضد المتظاهرين السلميين وغالبيتهم من الطبقة الفقيرة الشيعية التي لم تجد في السنوات الماضية بارقة أمل واحدة لتحسين أحوالها الحياتية. كان يمكن لرئيس الوزراء أن يُحدث خرقاً حقيقياً في «الاحتباس السياسي» الذي استمر منذ عام 2003 حتى اليوم. وهو ما زال يقول إنه قادر على احتواء ما يحدث على الرغم من الانتقادات التي وُجهت إليه حول «باقة الوعود» التي جاءت متأخرة جداً. لكن كما يقول المثل «أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي». وهي وعود متواضعة ليس هناك ما يمنع أن تصادرها حيتان الفساد والأحزاب. وهناك سوابق كثيرة من أهمها اللاجئون العراقيون في الداخل من سكان المحافظات الشمالية والغربية الذين ما زالوا بعد أكثر من عامين على دحر «داعش» يسكنون البراري والمخيمات وضاعت كل أموال المنح الدولية في بطون الحيتان، ولم يتسلم منها اللاجئون وجبة غذائية واحدة!
«الاحتباس السياسي» في العراق أصل وصورة. الأصل هو الحكومة، والدولة بشكل أعمّ، وعجزهما المزمن عن إصلاح الخدمات والتعليم والصحة والإسكان والماء والكهرباء، وانشغالهما طوال العام بالطقوس المستوردة التي لا تنتهي أبداً، من مناسبة إلى أخرى، ومن مسيرة إلى ثانية، ومن عطلة إلى عطلات. وذكر لي خبير اقتصادي في أحد البنوك الرسمية العراقية أن إنفاق الحكومة على المناسبات والزيارات الدينية لا يقل عن ملياري دولار سنوياً! وهو مبلغ قادر على تحقيق اختراقات كثيرة في «الاحتباس السياسي» الذي اختنقت به الحكومة والشعب معاً.
أما الصورة فإن السيدين عادل عبد المهدي وحيدر العبادي تسلما ركاماً من المشكلات التي خَلّفها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في دورتيه الوزاريتين، لكن هذا عذر لا يُقنع المحتجين الهائجين بالعودة إلى بيوتهم، خصوصاً أن الرصاص الحي لا يُنهي الاحتجاج السلمي بل يساعد على تصاعده.
كل الفيديوهات التي تلقيتها خلال الأيام الماضية تلعن النظام الإيراني؛ فهو سبب كل مشكلات العراق منذ حرب السنوات الثماني حتى اليوم. لم ينل العراقيون من إيران إلا الطقوس الخرافية والفتنة الطائفية والميليشيات وقاسم سليماني وهذا «الاحتباس السياسي» الدامي.