هناك أمران يجعلان مسألة «بريكست» شديدة التعقيد، وأشار بوريس جونسون إلى واحد منهما خلال الخطاب الذي ألقاه أمام مؤتمر لحزبه، الأربعاء، بقوله: «مناقشات فنية» مع مسؤولين مرهقين في الاتحاد الأوروبي. أما الأمر الآخر فيتعلق بالجانب السياسي، وبالطبع يتداخل الجانبان الفني والسياسي، لكن لا يمكن إنجاز «البريكست» من دون حسم الجانبين.
وبدا اتفاق تيريزا ماي الذي أقر فكرة «المسند الآيرلندي» التي أصبحت سيئة السمعة الآن (هي عبارة عن ضمان عدم وجود حدود صلبة بين الشمال والجنوب) أنه حل المشكلة الفنية، لكن على حساب الجانب السياسي. وأبقى الاتفاق على معبر بين آيرلندا الشمالية وآيرلندا يكون خالياً من أي بنية تحتية وعلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي دون تغيير، لكنه ربط المملكة المتحدة باتحاد الجمارك التابع للاتحاد الأوروبي. ورفض الجميع تقريباً هذا الأمر لأنه جعل المملكة المتحدة خاضعة لقواعد الاتحاد الأوروبي ومنعها من إبرام اتفاقيات تجارية مستقلة، وهو أحد المطالب الجوهرية لأنصار بريكست.
أما هدف جونسون فمختلف، فهو يرغب في تسوية المعضلة السياسية أولاً عبر تكوين أغلبية برلمانية، إما من خلال دفع مجلس العموم المتردد نحو دعم اتفاق «بريكست» الخاص به، وإما تغيير البرلمان وجعله بيئة أكثر وداً تجاه «بريكست» من خلال عقد انتخابات عامة.
أما المسؤول الأول عن الاستراتيجيات المعاون لجونسون، دومينيك كمنغز، فيعشق الحديث عن المنحنيات المختلفة التي كان يمكن للماضي اتخاذها. والملاحظ أن جونسون بنى استراتيجيته الانتخابية بصورة تتلاءم مع نتائج محتملة عدة.
وينبغي لنا تصديقه عندما يقول إنه يرغب في اتفاق، خاصة أن إقرار «بريكست» دونما اتفاق سيثير حالة زعزعة كبرى بالبلاد، مهما أكد جونسون على أن بلاده مستعدة لذلك. وإذا نجح فيما أخفقت فيه ماي وصاغ اتفاقاً يفوز بموافقة البرلمان، فإن هذا قد يعينه على الفوز في الانتخابات كرجل أوفى بوعده بـ«إنجاز بريكست». واليوم، تبدو فرص جونسون في النجاح أفضل عن فرص ماي، فهو أكثر احتمالاً بكثير لأن يحتفظ بدعم الحزب الديمقراطي الوحدوي في آيرلندا الشمالية والتيار المؤيد لبريكست بقوة داخل حزبه، إضافة لبعض أعضاء البرلمان عن حزب العمال من مؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
إلا أن جونسون في الوقت ذاته شخص واقعي ويدرك جيداً أن خطته المقترحة تخرق الخطوط الحمراء للاتحاد الأوروبي، وأنها يمكن أن تقابل بالرفض بسهولة من جانب بروكسل.
بإيجاز، يدور مقترح المملكة المتحدة حول إبقاء آيرلندا الشمالية داخل النطاق التنظيمي للاتحاد الأوروبي، بحيث يمكن للغذاء والمنتجات الزراعية وغيرهما عبور الحدود الآيرلندية بحرية من دون الخضوع لأي قيود. ومن شأن ذلك الحفاظ على تجارة سنوية عبر الحدود بقيمة 3 مليارات يورو (3.3 مليار دولار) والإبقاء على السوق الموحدة دون مساس.
إلا أنه بعد فترة انتقالية، سترحل آيرلندا الشمالية عن اتحاد الجمارك التابع للاتحاد الأوروبي على خطى باقي أرجاء المملكة المتحدة، ما يمكن بريطانيا من التفاوض بنفسها حول اتفاقيات تجارية. ويخلق ذلك الحاجة إلى فرض نقاط تفتيش تابعة للجمارك على الحدود الآيرلندية مع الشمال، والتي يقترح جونسون ألا تكون قريبة من الحدود ذاتها، وإنما على «أساس لامركزي» يعتمد على مستندات إلكترونية، مع وجود القليل فقط من نقاط التفتيش المادية على امتداد سلسلة الإمداد.
ويفرض هذا التوجه تكاليف حتمية على الشركات، لكنه يخلق أيضاً تحديات فنية ومتطلبات كبيرة فيما يخص نقل البيانات وإمكانية وقوع صور من إساءة الاستخدام. ويتطلب هذا التوجه قدراً كبيراً من الثقة العامة، والتي تبدو هشة على أفضل تقدير حالياً داخل آيرلندا الشمالية.
هناك أيضاً نقاط أخرى في مقترح جونسون بحاجة لمزيد من المناقشة. مثلاً، سيتعين على مجلس آيرلندا الشمالية في ستورمونت الموافقة على هذه الترتيبات قبل انطلاقها العام المقبل، ثم تكرار الموافقة كل أربع سنوات، وهو ما لمح رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى أنه ينطوي على مشكلات، وهو توصيف صائب بالنظر إلى مجلس ستورمونت مجمد حالياً). ولا تذكر المملكة المتحدة ماذا يحدث لو أن آيرلندا الشمالية لم ترغب في التداخل تنظيمياً مع الاتحاد الأوروبي.
سيكون بمثابة مفاجأة لو أن الاتحاد الأوروبي الذي يبدو حريصاً على تجنب اللوم عن انهيار المفاوضات، رفض مقترح جونسون مباشرة، لكن المؤشرات الأولى توحي بأن مقترحه لن يمرر. وبينما تعهد رئيس الوزراء بعدم السعي لتمديد أجل «البريكست» لما وراء الموعد المحدد سلفاً في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، من المقرر أن تستمع محكمة اسكوتلندية لدعوى، الجمعة، حول ما إذا كان البرلمان سيجبره على فعل ذلك. وربما ينتهي الأمر داخل المحكمة العليا بالمملكة المتحدة.
الواضح أن هذا الأمر لم يعد يشغل بال أعضاء حزب المحافظين مثلما كان الحال من قبل. وسواء نجحت خطة بريكست أو فشلت، فإن الأمر المهم لجونسون أنه صاغ حجة مقنعة لسردها على مسامع الناخبين. ومن شأن التصويت له إسقاط لعنة البريكست من على عاتق البلاد، ثم المضي قدماً نحو تعزيز خدمة الصحة الوطنية وتشديد السياسات المتبعة تجاه مكافحة الجريمة وبناء الكثير من عناصر البنية التحتية. ويبدو هذا الأمر خيالياً بعض الشيء بالنظر إلى سنوات التفاوض الشاق التي تنتظر البلاد حتى حال إنجاز البريكست دونما اتفاق.
وإذا انهارت المفاوضات مع بروكسل أو لم تصل للنتيجة المرجوة في الوقت المناسب، يبدو جونسون مستعداً، فهو سيلقي اللوم على الاتحاد الأوروبي لإخفاقه في الإدارة السياسية، وعلى برلمانه الحالي لإعاقته «إرادة الشعب» من خلال عدم تنفيذ إرادة استفتاء عام 2016، وأعرب غالبية من التقيتهم خلال مؤتمر الحزب في مانشستر عن اعتقادهم بأن جونسون سيجبر على تمديد أجل بريكست، لكن الناخبين لن يلقوا اللوم عليه عن ذلك.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»