جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

سير ذاتية... بين الحقيقة والمبالغة والمال

يحرص رؤساء الحكومات البريطانيون، على اختلافهم، على كتابة مذكراتهم وسيرهم الذاتية عقب خروجهم من الحكم، لأغراض مختلفة. هذا التقليد الحميد يقدم خدمة للتاريخ، ويفتح كثيراً من النوافذ والأبواب أمام الباحثين والمؤرخين والمهتمين عموماً، للدخول إلى عوالم كانت ستظل خفية، كما يساعد على تسليط أضواء على تفاصيل ما حدث خلال فترة زمنية محددة، وراء أبواب مغلقة، في قضايا وأمور مهمة تتعلق بالشأن العام.
آخر ما صدر من هذه المذكرات السيروية كان لديفيد كاميرون رئيس الوزراء الأسبق. المذكرات بعنوان «For the Record» وتقع في 800 صفحة، وتلقى كاميرون مبلغ 800 ألف جنيه إسترليني أجراً عن كتابتها، أي بمعدل 1000 جنيه إسترليني عن كل صفحة سوّدها. ووصل عدد المبيعات في الأسبوع الأول من صدورها إلى نحو 20 ألف نسخة.
مذكرات السيد كاميرون السيروية تعرضت لسيرته الشخصية، وسنوات عمله السياسي، وتفاصيل وقائع سنوات وجوده في رئاسة الحكومة، وجاءت في وقت اعتبره كثيرون غير مناسب سياسياً، نظراً للظروف غير العادية التي تمر بها بريطانيا، نتيجة الانقسام الحاد حول الموقف من الخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي كان وفقاً لكثيرين نتيجة قرار خاطئ من قبل ديفيد كاميرون، حينما كان رئيساً للوزراء. هذه السطور، ليست مكرسة للحديث عن الكتاب، لكنها تحاول التفاوض مع الاحتمالات الكثيرة، على أمل إيجاد إجابة، أو أكثر عدد من الإجابات الممكنة، لاستكناه الأسباب وراء حرص رؤساء الحكومات على كتابة ونشر مذكراتهم.
الفرضية الأولى قد تكون رغبة أولئك السياسيين في تقديم أنفسهم إلى القراء بشكل مغاير عما عرفوه عنهم أثناء وجودهم في الحكم، من خلال أفعالهم ومنازعاتهم، وتصريحاتهم، ومواقفهم، وهي في مجملها صور لا يفضلها السياسيون عن أنفسهم، لأنها بلا بريق، ولا تزويق، وأقرب إلى الواقع، ولا تجانب الصواب، ومأخوذة من فرن الواقع السياسي المعاش، بما فيه من ثآليل، وأكاذيب، وطعن بالسكاكين من الخلف في عزّ النهار. ومن هنا، تتوفر رغبات لديهم لتقديم صور ملونة، وجميلة.
الفرضية الثانية، قد تكون رغبة كامنة لدى أصحابها في إعادة كتابة التاريخ، بإعادة تفكيك كثير من الحوادث والوقائع وتركيبها، من وجهة نظر شخصية جداً، وفي السياق نفسه، تسوية كثير من الحسابات القديمة، مع الخصوم. هذه الفرضية لا تبعد كثيراً عن الواقع، وقد تكون الأقرب إلى الصحة من غيرها، استناداً إلى ما صدر من كتب ومذكرات سيروية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن كتاب كاميرون تزدحم سطور صفحاته بكثير من التفاصيل المتعلقة بذلك، وخاصة ذات الصلة منها بصديقه اللدود رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، وغيره.
هناك فرضية ثالثة، قد لا يسهل على الباحثين استبعادها، وتتعلق بالمردود المالي الكبير نسبياً. وعلى سبيل المثال، فإن توني بلير رئيس الوزراء العمالي الأسبق، وفقاً لتقارير إعلامية، حصل من جراء كتابة مذكراته المسماة «الرحلة» على مبلغ 4.3 مليون جنيه إسترليني.
هناك، أيضاً، فرضية رابعة، يمكننا أن نطلق عليها اسم التطهر من الذنب بالمعنى النفسي، أي الشعور بالذنب نتيجة ارتكاب أخطاء كبيرة، تسببت في أحداث جسام، وربما كوارث للبلاد والرغبة في إبداء الأسف والندم، كما حدث مع رئيس الوزراء المحافظ أنتوني أيدن الذي قاد بريطانيا لكارثة حرب السويس عام 1956. وتوني بلير الذي زجّ بها في حرب العراق، وديفيد كاميرون الذي ورطها في مشكلة الخروج من الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق، يحاول رؤساء الحكومات التعرض إلى التفاصيل التي أحاطت بالحادثة، والظروف التي اضطرتهم إلى اتخاذ قرارات بعينها، لكنهم من خلال ما اطّلعت عليه شخصياً يلجأون إلى إيجاد المبررات لأنفسهم، والتأكيد على حسن نواياهم، وصحة قراراتهم، ويأسفون، أخيراً، لأن النتائج سارت في اتجاه معاكس لتوقعاتهم، ومذكرات كاميرون الأخيرة أفضل نموذج لها.
وهناك احتمال أن تكون الفرضيات الأربع، أعلاه، مجتمعة وراء الدوافع والأسباب التي جعلتهم حريصين على كتابة مذكراتهم ونشرها. وبالطبع، تظل الخصوصيات والفروق الفردية بينهم عاملاً مهماً في الرفع من قيمة الكتاب أو التقليل من حظوظه في الانتشار، وتعامل وسائل الإعلام معه، وكذلك آراء النقاد والمراقبين السياسيين.
وفي هذا السياق، تجدر بنا الإشارة إلى مذكرات ونستون تشرشل حول الحرب العالمية الثانية (6 مجلدات)، واستحق عليها الفوز بجائزة نوبل للسلام في الأدب عام 1953. وكذلك، مذكرات ثاتشر «سنوات داوننغ ستريت» التي لاقت رواجاً شعبياً، وبيعت منها أكثر من نصف مليون نسخة.
لكن ما يهم، حقاً، بالنسبة للباحث والمؤرخ في تلك المذكرات والسير الذاتية هو جرأة مؤلفيها في التعامل مع الحقيقة، والحرص على الصدق، والتقليل من المبالغات الشخصية، والنأي عن النيل من الخصوم والمعارضين، وهذه خصال، في الحقيقة، يفتقدها كثير من أهل الساسة... أمور كثيراً ما تسقط من حساباتهم، بقصد أو بالطبيعة التي اكتسبوها من الأعوام الطويلة التي قضوها في ممارسة العمل السياسي، حتى صارت جزءاً منهم.