عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

التركة المثقلة

«الشر الذي يفعله الرجال يبقى بعد ذهابهم»، قول مأثور من مسرحية «يوليوس قيصر» لويليام شكسبير في 1599، ذكرني بتركة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون (في داوننغ ستريت 2010 - 2016)، وهي وراء جمود مجلس العموم اليوم، بالسؤال الفلسفي عديم الإجابة، من جاء أولاً البيضة أم الفرخة؟
«أسبوع هو دهر في عالم السياسة» قول الراحل السير هارولد ويلسون (1916 - 1955) رئيس وزراء بريطانيا لأربع حكومات ما بين 1964 و1976، الآن أصبح يومٌ في وستمنستر بسنة كاملة.
يوم المراسل البرلماني قد يتجاوز 16 ساعة، بدءاً من «vote office» مكتب التصويت، لمتابعة جدول أعمال اليوم، لمتابعته، ليس فقط في القاعة الرئيسية، وإنما في عشرات اللجان في مجلسي العموم واللوردات. ثم يذهب الصحافي المعتمد إلى مكتبه المخصص (تقليد خاص بوستمنستر يعود إلى عام 1803)، يتضمن العمل اجتماعي الصباح وبعد الظهر بالسكرتير الصحافي والمستشار السياسي لرئيس الوزراء، ولقاء المتحدث باسم المعارضة، والدردشة مع النواب كأفراد على مشروب لمعرفة ما يدبرون.
أربعة أيام برلمانية شهدت تعديلات وتغيرات وتصويتاً إلى ما بعد منتصف الليل. ليس كأيام الصحافة الورقية، الضغوط على ظهور التقرير «أونلاين» والمواقع، نضطر للتغيير والإضافة وكتابة قصص جديدة طوال اليوم. الساسة متآمرون بطبيعتهم، في صياغة مشروعات القرارات، ثم إدخال التعديلات، ومناقشة كل تعديل، والتصويت عليه منفردًا.
«الشر» الذي بقي بعد سقوط صاحبه كاميرون تحت عجلات الأتوبيس السياسي المسرع في الاتجاه المضاد لاستفتاء 2016، خلق مأزقاً دستورياً.
خليفة خليفة كاميرون، وزميل دراسته، بوريس جونسون، أصبح أول رئيس وزراء بريطاني يتعرض لثلاث هزائم تصويتية متعاقبة في أول ثلاثة أيام عمل له في مجلس العموم، فقد كان المجلس رفع لإجازة الصيف في اليوم الثاني لدخوله «10 داوننغ ستريت»، بعد توليه زعامة الحزب الحاكم.
سبب محنته تركة المستر كاميرون. ولا أقصد استفتاء 2016 مثلما يحلو لعشاق الاتحاد الأوروبي أن يعتبروه خطأ، فهم لا يعترفون بحق الشعب في التصويت لتغيير فيدرالية تديرها البيروقراطية. بل أقصد رعونة حكومة الائتلاف (2010 - 2015) في إصدار تشريع تثبيت الفترة البرلمانية ما بين انتخابين بخمس سنوات.
في مصادفة تاريخية يصعب تكرارها، فاز «الديمقراطيون الأحرار» بـ57 مقعداً في انتخابات 2010، والنتيجة برلمان معلق، فاضطر المحافظون إلى تأسيس ائتلاف حاكم معهم. كشرط للائتلاف مع كاميرون، أصر زعيم «الأحرار»، نيقولاس كليغ، (حالياً مدير دولي لـ«فيسبوك» بعد خروجه بهزيمة ساحقة في انتخابات 2015 فقد فيها 49 مقعداً) على تثبيت المدة البرلمانية بخمس سنوات، ليضمن البقاء في الحكم لأطول مدة. وقتها حذر الفقهاء الدستوريون من قوانين تثبيت العمل البرلماني في بلد ليس فيه دستور مكتوب. فالدستور البريطاني ديناميكي متغير يتكون من تراكم ممارسات برلمانية وتقاليد وسوابق هذه الممارسات.
قبل قانون تثبيت المدة البرلمانية في 2011، كانت الانتخابات تجري في ثلاثة ظروف فقط؛ فقدان الحكومة الثقة بالتصويت، كرفض النواب مشروعها للحكم، أو إذا قدم رئيس الوزراء استقالة الحكومة، ودائماً عندما يريد استغلال شعبيته لزيادة نصيبه من المقاعد، والحالة الثالثة نادرة عندما يحل القصر البرلمان لمواجهة خطر كبير، كما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، وتكونت حكومة وحدة وطنية.
إجراء الانتخابات العامة، وفق قانون 2011، لتثبيت المدة يشترط موافقة ثلثي النواب، أي 433 عضواً لحل المجلس.
حكومة جونسون تقدمت، الخميس، بمذكرة لحل البرلمان لإجراء انتخابات عامة، بسبب جمود المجلس الذي يعرقل برنامج الحكومة، سواء لـ«بريكست»، أو بدء دورة برلمانية جديدة لمواجهة احتياجات الشعب في الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات. ورغم فوز المذكرة بـ298 مقابل 56 صوتاً، إلا أنها أقل من الثلثين بعد امتناع «الديمقراطيين الأحرار» و«العمال» عن التصويت.
أي حكومة تضطر لإجراء انتخابات في حالة فقدان الأغلبية العددية. ستة هجروا حكومة المحافظين إلى صفوف المعارضة. تركة «شر» زميل دراسته القديم تمنع الشعب البريطاني من تقرير المصير. النواب المارقون يرفضون تنفيذ البرنامج الذي منحهم الناخب ثقته لتطبيقه وهو «بريكست».
في السابق كان مديرو أعمال الحزب يضغطون على النواب المتمردين بفكرة أن إضعاف الحكومة برلمانياً سيؤدي إلى انتخابات قد يسحب فيها الحزب منهم حق الترشيح. لكن قانون تثبيت المدة البرلمانية حرم الحزب من أداة الانضباط لإجبار النواب على اتباع الخط الحزبي.
«الشر» الأكبر هو إدخال البلاد في حالة جمود سياسي، وكأنها شاحنة دخلت في حارة مسدودة، ولا يكفي عرض الطريق لاستدارتها.
ولعلها المرة الأولى في تاريخ البرلمانات في أي مكان في العالم، أن ترفض المعارضة فرصة الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات عندما سنحت لها. مجموعة الأحزاب الرافضة لتطبيق قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي نجحت، بالتواطؤ مع رئيس البرلمان خروجاً عن اللوائح البرلمانية، في تمرير قرار يمنع خروج البلاد من الاتحاد بلا اتفاق تجاري، ويجبر رئيس الوزراء على طلب تمديد عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يكلف الخزانة البريطانية مليار جنيه إسترليني شهرياً، ويخرق وعده بتنفيذ «بريكست». وهم يصرون على التمديد كشرط للموافقة على إجراء الانتخابات، والحكومة ترفض تمديد العضوية قبل إجراء الانتخابات، أي الأمر في دائرة مغلقة بلا حل. خيارات حكومة جونسون محدودة. أولها الالتفاف على قانون تثبيت البرلمان بتقديم مشروع قانون لا يزيد على سطر واحد يبدأ بمصطلح قانوني «Not with standing»، وهي مكونة من ثلاث كلمات تعني «بلا خرق للقانون الحالي» كحالة استثنائية، بتحديد يوم معين للانتخابات، وبالطبع سيكون 15 من الشهر المقبل، أي قبل القمة الأوروبية بيومين، ويقدمه للبرلمان. ومشروع القانون يتطلب أغلبية عادية، أي صوت واحد، لتمريره. بالطبع هناك احتمال استمرار تواطؤ نواب من حزبه، فقد صوت 21 مع المعارضة يوم الأربعاء، ولا ينجح المشروع.
الخيار الأخير أن تسحب حكومة جونسون الثقة من نفسها، لكن نواب الحكومة نقص عددهم إلى 289، وإذا صوت المتمردون الـ21 معها إلى جانب نواب «وحدويي آيرلندا الشمالية» العشرة، فإن العدد 320 فقط أقل صوتين من المطلوب، إذا قررت أحزاب المعارضة أن تمنح ثقتها لحكومة سحبت الثقة من نفسها.
المزاج السياسي للبرلمان لا يمثل الشعب المؤيد لجونسون في استطلاعات رأي تمنحه أغلبية 74 مقعداً، إذا أجريت الانتخابات، لكنه يبدو كجنرال يقود جيشاً باستطاعته أن يدحر الخصم في الدقائق الأولى للمعركة... المأزق أن الخصم يتقهقر وراء «الشر» الذي خلفه كاميرون، ويرفض الاشتباك تاركاً ظروف الجو غير المناسبة تستنزف الجيش الشجاع.