داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

تجربة إنسانية في عالم متوحش

كثيرون يقولون إن اليابان كوكب آخر غير الكرة الأرضية. وحين زرت هذا البلد البعيد في أقصى الشرق قبل أكثر من 30 عاماً لم تكن معلوماتي عنه تتعدى أن هذا البلد خسر الحرب العالمية الثانية بسبب القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما طائرتان أميركيتان على مدينتي هيروشيما وناكازاكي، ما دفع إمبراطور اليابان هيرو هيتو إلى إعلان الاستسلام أمام قوات الاحتلال الأميركي في 2 سبتمبر (أيلول) 1945.
في السبعينات والثمانينات بدأت السيارات اليابانية تتدفق إلى الشوارع العربية، ومنها العراق. واستطاعت هذه السيارات إزالة السمعة السيئة عن السلع القديمة التي تحمل شعار «صنع في اليابان»، حتى إننا كنا نطلق على أي صناعة رديئة من أي جنسية تعبير «جاباني»... أي ياباني!
سمعنا أيضاً عن المصارعة اليابانية وملابس الكيمونو والساموراي، وشاهدنا مسلسلاً تلفزيونياً يابانياً وحيداً يحمل اسم «حافات المياه» يروي قصصاً عن قُطّاع الطرق وصراع الإرادات بين القبائل في بلاد الشمس المشرقة. ورسمنا في أذهاننا لوحات عن الحياة في ذلك البلد ذي الطقوس الخاصة والكتابة المميزة والمجتمع الذي تزيد فيه نسبة المعمرين عن الأطفال.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بحث جنود الاحتلال الأميركي عن بيضٍ لإعداد فطور الصباح للجنرال دوغلاس ماكارثر القائد الأعلى لقوات الاحتلال، فلم يعثروا على بيضة واحدة. لقد ضربت المجاعة البلاد لسنوات كثيرة بعد الحرب. ثم تحولت اليابان من دولة زراعية إقطاعية حربية إلى دولة عصرية مسالمة يُضرب المثل في علاقاتها الاجتماعية الراسخة المبنية على احترام الصغير للكبير في البيت والشارع والمصنع وقطارات المترو. وهي تجربة ناجحة بدرجة امتياز وتستحق أن نفهمها جيداً في هذا العالم المتوحش.
إليكم هذا الدرس باللغة اليابانية... جرت العادة في كثير من الشركات اليابانية أن يختار المنتسبون في كل أسبوع شعاراً معيناً يعملون في ضوئه، مثل «إنتاج أكبر من خلال الجهد الجماعي» أو «سمعة الشركة تهمنا جميعاً»، وخلف مثل هذه الولاءات القوية للجماعة تكمن أسرار النجاح الصناعي الذي تفتخر اليابان به.
من مميزات المدير الياباني أو رئيس الشركة أنه إذا أدَّت سياسته إلى فشل الشركة أو خسارتها، أو إذا ألحق أضراراً بها بسبب فضيحة مالية أو شخصية، فإنه يمتلك الشجاعة الكافية التي تؤهله لأن يقف أمام منتسبي الشركة ويعترف بتقصيره علناً. وهو لا يطلب العفو والمغفرة ونسيان الماضي، ولا يبحث عن أعذار لتسويغ الفشل، ولا يفتش عن شماعة أو كبش فداء، ولا يردد كلمات زئبقية مبهمة من نوع الظروف والمستجدات والصيرورة والكينونة! لكنه يحترم نفسه والآخرين، فيتحمل المسؤولية كاملة ويقدم استقالته على الفور... أو تصعد الغيرة لديه فتدفعه إلى الانتحار!
واليابانيون في هذا لا يشبهون مجتمعات أخرى، يفشل فيها المدير أو رئيس الدائرة وتكثر فضائحه ويزداد اللغط حول تصرفاته وسوء استعماله للسلطة وسهرات الليل «الحضارية» التي يعقدها تحت شعار «من طلب العلا سهر الليالي» فيتصور الناس أنه سيطرد من وظيفته، إلا أنهم يفاجأون بصدور أمر بترقيته إلى منصب وكيل الوزارة أو بتعيينه مديراً عاماً لدائرة أخرى بالوكالة، إضافة إلى منصبه! ليس هذا فقط، ولكنه يكافأ أيضاً بسخاء على خدماته «الجليلة» التي أدت إلى ضياع الفلوس وتراجع الإنتاج وتذمر الموظفين والناس واستشراء الفساد!
والمدير الياباني ليس مديراً من وراء الكواليس أو الكوابيس، لكنه جزء من النشاط المقرر للدائرة أو الشركة، فالسيد «توياما» وهو مدير أحد مصانع السيارات اليابانية، يبدأ يومه بقراءة التقارير الإدارية والفنية من النوبة الليلية عن أي مشكلات في السيطرة النوعية على الإنتاج، ثم يعقد اجتماعاً مع مساعديه من فريق السيطرة لمناقشة التقارير واقتراح الحلول وإبداء الملاحظات. وهذا النوع من الاجتماعات يتميز بالديمقراطية الحقيقية وحرية الرأي والرأي الآخر وحق الاعتراض من دون أي ضغوط أو هراوات أو مارشات عسكرية. ويقضي السيد توياما كثيراً من يوم عمله على أرض المصنع، يتابع ويراقب ويرشد ويسأل ويشكر. وهو يبتسم طوال الوقت، لأنه يعتبر الابتسام دليلاً على الثقة في النفس و... اضحك تضحك لك الدنيا! والدنيا تضحك كثيراً لليابانيين، لأنهم يعرفون قيمة الحياة وقيمة العمل وقيمة الوقت، ويا ليتها تضحك لنا.
وتوياما ليس رئيساً فقط لمنتسبيه، ولكنه صديق لكل منهم، ويتعاملون معه كأب أو أخ كبير. وهم يطلبون توجيهاته في العمل مثلما يطلبون مشورته في قضاياهم الشخصية وعلاقاتهم العاطفية. وهو لا يمانع أن يكون وسيطاً لترتيب إجراءات زواج أحد منتسبيه من زميلة له في المصنع أو من خارج المصنع. وهو ضيف الشرف في حفلة الزواج، وأول من يسمع عن أي خلاف عائلي بين الزوجين بعد انتهاء شهر العسل! وحين تعلن مذيعة الإذاعة الداخلية في الشركة عن موعد تناول وجبة الغداء، فإن توياما لا يتوجه إلى قاعة خاصة بالمديرين، لكنه يذهب إلى القاعة الكبرى؛ حيث يجلس جنباً إلى جنب مع منتسبيه، يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويشاركهم الضحك من النكتة التي تقول إن أجنبياً زار اليابان وأدهشه كثيراً أن أطفال اليابان يعرفون القراءة والكتابة باللغة اليابانية! أما في غير اليابان فإن الموظفين يأكلون مع الموظفين، والعمال «يلفطون» مع العمال، والمديرين يضربون بالعشرة مع المديرين! وبعد العمل تستمر العلاقات الشخصية في حانات الساكي والمطاعم الشعبية حتى في منزل توياما؛ حيث تجري مناقشة أحدث وسائل السيطرة النوعية على مائدة يابانية تقليدية يتصدرها الرز والسمك وشوربة الأعشاب البحرية!
وبالنسبة لليابانيين، فإن لعلاقة أي فرد منهم مع الجماعة أهمية قصوى في حياته الخاصة والعائلية. إنها خليط بارع من العادات الاجتماعية اليابانية التقليدية، متمازجة مع التقنية المتطورة، لتشكل اليابان الحديثة؛ التجربة الفريدة التي تستحق الدراسة والاستفادة، بعيداً عن التجارب الغربية التي علّمت البعض أن يمشي مثل الغربان، فلا هو صناعي ولا هو زراعي، لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي، لا هو نفطي ولا هو تمري، لا هو أفندي ولا هو مجلبب، لا هو هامبرغري ولا هو كوارعي، لا هو شبابي ولا هو شيابي، لا هو ماكسي ولا هو ميني، لا هو هنا ولا هو هناك.
... في الحقيقة نحن هنا... وهم هناك!