فاي فلام
TT

الأرض بين أيدي البشر

يحاول بعض العلماء إطلاق اسم «الأنثروبوسين» على العصر الجيولوجي المعاصر - في إشارة إلى الحقبة المقترحة ببداية التأثير البشري الملحوظ على جيولوجيا كوكب الأرض والنظم الإيكولوجية الراهنة. وهذا ليس من قبيل التباهي، حيث إن أغلب التغييرات التي طرأت على كوكب الأرض بسببنا مثيرة للحرج البالغ.
لقد تسبب البشر في تحولات هائلة في ممالك النباتات والحيوانات التي تشاركنا الحياة على سطح الكوكب، كما أننا دفعنا العديد من الأنواع إلى التلاشي والانقراض، وتركنا طبقة لا يستهان بها من الآثار الإشعاعية الناجمة عن التفجيرات النووية المتعددة، وأحدثنا تغيرات في تركيبة الغلاف الجوي للكوكب بطريق الخطأ، وتركنا طبقة من البلاستيك التي من المرجح أن يستمر وجودها على سطح الأرض إن استمرت الحياة عليه لمليون سنة قادمة.
وبعد مرور عهود طويلة من الزمن وتحول كافة أعمالنا الفنية والهندسية على سطح الكوكب إلى غبار، لن نخلف وراءنا سوى الفوضى العارمة شاهداً ودليلاً على وجودنا. وإطلاق اسم «الأنثروبوسين» على الحقبة الزمنية الراهنة يعد اعترافاً بما اقترفناه بحق الأرض. وهذا الاعتراف في حد ذاته يعد الخطوة الأولى نحو استراتيجية أفضل تهدف إلى التقليل من آثارنا الضارة على الكوكب.
وتصف مقالة رائعة على صفحات مجلة «نيتشر - الطبيعة» مؤخراً، البحث عما يسميه العلماء «الطفرة الذهبية»، وهو مؤشر في مكان ما على ظهر الكوكب يعكس علامة واضحة للغاية على التغيير الكبير الذي من شأنه أن يعبر عن فجر حقبة «الأنثروبوسين» على الأرض. ومما يجعل العملية مثيرة للاهتمام ليس ما يستقر عليه العلماء كنقطة انطلاق الاسم، وإنما ما يكشف عنه بشأن الطريقة التي أصبح بها البشر من قوى التغيير والتأثير في كوكب الأرض، وإلى متى سوف تستمر هذه التغييرات الناشئة عن تفاعلات البشر. ومن واقع هذا الفهم للأمور يمكن الخروج بالاستراتيجية المعنية بالتقليل من آثارنا الضارة على الأرض.
ويتجه العلماء بأبصارهم صوب التفجيرات الذرية لعقد الخمسينات من القرن الماضي، والتي خلفت أثاراً باقية تمثلت في طبقة طويلة الأجل من النظائر المشعة الكامنة في قاع البحيرات والترسيبات الجليدية. كما ينظر الناس في ظهور مزارع تربية الدواجن التي انتشرت انتشاراً واسعاً حول العالم تاركة وراءها مخلفات عظمية لما يقرب من 60 مليار طائر في كل عام.
يقول ديفيد غرينسبون العالم المختص بالكواكب إن العملية المذكورة تحمل طابعاً ذاتياً أكيداً، والذي يدور كتابه الأخير بعنوان «الأرض بين أيدي البشر» حول قضية «الأنثروبوسين» على الأرض. وقال الدكتور غرينسبون إن الشخص الذي سوف يستكشف الأرض بعد مرور 50 مليون عاماً من الآن قد لا يعثر على أي علامات أو إشارات واضحة تدل على وجودنا، ولكن إن كان الباحث من علماء الآثار المحنكين وأجرى الحفريات العلمية فسوف يستنتج أن أشياء غير عادية قد حلت بالكوكب إثر وجودنا عليه.
يقول المعارضون لتلك النظرية إننا لا نضمن التأثير الكبير على حقبة العصر الجيولوجي المعاصرة، حيث إننا من الأنواع قصيرة العمر للغاية. فالوجود البشري على سطح الأرض لا يتجاوز 200 ألف سنة وفق بعض التقديرات العلمية، ولم يفعل البشر خلال أغلب هذه الفترة ما يمكن وصفه بالتغيير الدائم على الكوكب. ولم يبدأ البشر في الانتشار حول كافة قارات العالم المعروفة حتى قبل 50 ألف عام مضت، تاركين إثر بدء انتشارنا موجة هائلة من انقراض أنواع الحيوانات التي أحببنا أن نأكلها. وقد بدأنا بالفعل في إضافة مواد جديدة، مثل المواد البلاستيكية، إلى الطبقات الجيولوجية بدءاً من القرن الماضي فقط الذي لا يمثل أهمية قصوى من حيث الزمن الجيولوجي الكبير. والزمن الجيولوجي طويل وممتد ووجودنا فيه قصير للغاية، حتى الآن على أدنى تقدير.
لكن يمكننا أن نعرف أن تأثيرنا على كوكب الأرض سوف يستمر خلال الزمن الجيولوجي المعاصر. ومن شأن المخلفات النووية الناجمة عن التفجيرات المتعددة أن تستمر لمئات الآلاف من السنين، وكذلك آثار تلك الجبال الهائلة من البلاستيك التي نتخلص منها بشتى الطرق، والتي تشكل بعضها بالفعل صخوراً حديثة التكوين يُطلق عليها العلماء اسم «البلاستيك المتحجر». ويقدر العلماء أن التغييرات الناشئة عن البشر في كيمياء المحيطات ودرجات حرارتها سوف تستمر إلى آلاف السنين بعد أن نتعلم كيفية التوقف عن الاستعانة بحرق الوقود الأحفوري لتوليد الطاقة.
تظهر في قطب غرينلاند الجليدي طبقات تعود بتاريخها إلى العصر الروماني ولا تزال ملوثة بمخلفات الرصاص الصناعي لتلك الحقبة. ومن شأن الوقود المحتوي على الرصاص من القرن العشرين أن يخلف طبقة أكبر من الرصاص تضم عناصر الكادميوم والزرنيخ، فضلاً عن التغيرات الكيميائية التي حدثت مع ثقب الأوزون واتساع رقعته بمرور الأيام. (رغم سرعة ذوبان أطراف الجليد في الأرض فإن قطب غرينلاند نفسه مع الآثار المدفونة الدالة على تلوثنا قد تستمر في الوجود لمليون سنة أخرى).
ومن أعمق التأثيرات التي سوف يخلفها البشر وراءهم هو التغيير الواضح في سجل الحفريات. وقدرت منظمة الأمم المتحدة مؤخراً أن النشاط البشري على الصعيد العالمي من المحتمل أن يتسبب في انقراض مليون نوع من الكائنات. ولا نعرف على وجه الدقة عدد الأنواع الموجودة حالياً، إذ قام علماء الأحياء بتصنيف ما يقرب من مليوني نوع حتى الآن، ولكن التقديرات نشير إلى وجود ما يقرب من 10 ملايين نوع على كوكب الأرض.
وأظهرت دراسة حديثة أجريت في الآونة الأخيرة أن البشر أحدثوا تغييراً جذرياً في تعداد الكائنات الحية - إذ نجحوا في تدمير نحو 83 في المائة من جميع الحيوانات البرية ونصف المملكة النباتية. ويقدر الباحثون حالياً أن نسبة 96 في المائة من الثدييات في عالمنا اليوم هم من البشر أو من الماشية، ونسبة 4 في المائة فقط هم من الحيوانات البرية.
ولإضفاء الطابع الرسمي على حقبة «الأنثروبوسين»، سوف تحتاج لجنة «مجموعة عمل حقبة الأنثروبوسين» إلى الاتفاق على «الطفرة الذهبية»، وصياغة مقترح يحتاج بدوره إلى موافقة رسمية من الاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية. ولكن حتى من دون الموافقة والتسمية الرسمية، فإن الفكرة باتت تختمر وتتخذ مجالها الحقيقي في المخيلة الشعبية لسكان الأرض.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»