علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل سرق القصيمي أغلاله من كتاب خلَّاف؟

كان آخر ما كتبه سيد قطب عن القصيمي وكتابه «هذه هي الأغلال» تعقيباً قصيراً، وهو التعقيب الذي قلت عنه: لا أدري إن كان الأخ العزيز سليمان الخراشي يعلم بأمره أم أنه أهمله لقصره أو لسبب آخر.
نشرت مجلة «الكتاب» التي كان يرأس تحريرها عادل الغضبان في عدد يناير (كانون الثاني) 1947 تقريراً عنوانه «اتجاه التأليف في سنة 1946». وهذا التقرير شمل الكتب الصادرة في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان في ذلك العام. وكان من الكتب الصادرة المذكورة في مصر، كتاب عبد الله القصيمي «هذه هي الأغلال». وقد قال التقرير عن هذا الكتاب: «ولقد عدّ العقاد هذا الكتاب جرعة قوية مما يحتاج إليه المسلمون في هذا الزمان. ولقد ذكَّرتنا قوة المؤلف وإيمانه بالبعث العربي الجديد بقوة عبد المنعم خلاف في كتابه (أؤمن بالإنسان) حتى لقد زعم سيد قطب أن بين الكتابين مشابه، وأن اللاحق منهما أخذ من سابقه».
في العدد التالي من هذه المجلة نشرت المجلة تعقيباً لسيد قطب، هذا نصه:
«إلى الأستاذ رئيس تحرير (الكتاب):
اسمحوا لي أن أعتب عليكم عتباً شديداً – إن لم أسمه اسماً آخر – على تعبير غير كريم، أفلت من قلم التحرير، في عدد يناير الماضي، خاص بي؛ وذلك في مقال (اتجاه التأليف في سنة 1946). وما دام المقال بلا توقيع، فلي أن أوجه هذا العتب إليكم خاصة! جاء هذا التعبير في أثناء الكلام عن كتاب (هذه هي الأغلال) كما يلي: (ولقد ذكّرتنا قوة المؤلف وإيمانه بالبعث العربي الجديد، بقوة عبد المنعم خلاف في كتابه «أؤمن بالإنسان» حتى لقد زعم سيد قطب أن بين الكتابين مشابه، وأن اللاحق منهما أخذ من سابقه).
فتعبيركم بكلمة (زعم) هو التعبير الذي لا يرضاه كاتب مثلي قد أخذ نفسه بالتحرج والتثبت من كل جملة يكتبها في النقد خاصة. وما يجوز لكم إسناد هذا الوصف إليَّ إلا ومعكم إثباته بدراسة مفصلة. أما إلقاؤها هكذا كلمة عابرة بلا دليل الذي لم أكن أوده لكم، ولم أكن انتظره منكم».
ردت المجلة على تعليقه هذا، فقالت: «لا ندري أتستحق كلمة (زعم) هذا العتب الشديد وذلك الاسم الآخر الذي عف عنه القلم فبقي في الضمير، ونحن لئن كنا سوغنا لأنفسنا استعمال كلمة (زعم) فما قصدنا بها إلا معنى من معاني القول لا نسبة البُطل والمحال إلى الأستاذ العاتب، والله من وراء القصد».
تعقيب سيد قطب الغاضب سببه أنه كان يريد من تقرير مجلة «الكتاب»، أن يتبنى رأيه، بأن كتاب القصيمي مسروق من كتاب عبد المنعم خلاف، فكلمة «زعم» التي استعملها كاتب التقرير قصد بها «أعتقد» أو «ظن» ولم يكن يقصد بها أن ما قاله سيد قطب عن الكتاب قول كاذب. ولقد استعمل كلمة «زعم»؛ لأن سيد قطب لم يقدم أدلة واضحة وبراهين قاطعة تثبت اتهامه.
لقد اشتط سيد قطب حين طالب رئيس التحرير عادل الغضبان أن يلحق كاتب التقرير بكلمة «زعم» دراسة مفصلة تسوغ استعمالها بحقه في تقرير يقوم على الإيجاز والاختصار، مع أنه هو لم يقم بشيء من ذلك في مقالين من مقالاته عن القصيمي وكتابه اللذين ردد فيهما اتهامه له بالسرقة، رغم أن مقالاته كان موضوعها مكرساً للحديث عن القصيمي وكتابه.
إن اتهام سيد قطب للقصيمي كان اتهاماً مضطرباً واتهاماً طائشاً.
ففي مقاله الأول المعنون بـ«هذه هي الأغلال»، قال: «وفصل ضخم - هو أحسن فصول الكتاب – عن الإيمان بالإنسان، وهو عنوان كتاب للأستاذ عبد المنعم خلاف! ولا يشك إنسان في أن مؤلف الأغلال انتفع بهذا الكتاب انتفاعاً كاملاً تاماً، وليس في هذا من حرج، ولكن الرجل حينما سمع مني اسم الكتاب أبدى أنه لم يسمع به أصلاً! لم أحترم هذا التجاهل لأنه ليس سمة الباحثين المخلصين».
هنا سيد قطب لا يتهم القصيمي بالسرقة، وهنا أيضاً – حسب كلامه – لم يسوءه انتفاع القصيمي في الفصل الأول من كتابه، المعنون بـ«لقد كفروا بالإنسان – الإيمان به أول» من كتاب عبد المنعم خلاف انتفاعاً كاملاً تاماً؛ إذا لا حرج عنده أن ينتفع كتاب لاحق بكتاب سابق انتفاعاً كاملاً تاماً حتى لو لم ينص مؤلف الكتاب اللاحق على ذلك! وإنما الذي ساءه أن القصيمي حينما سمع منه اسم كتاب «أؤمن بالإنسان» أبدى أنه لم يسمع به أصلاً. فلو أن القصيمي قال له: «سمعت» بالكتاب أو قال له: أنه قرأه، لما كان انتفاعه به انتفاعاً كاملاً تاماً، من دون أن يشير إلى ذلك في كتابه، قد ساءه!
قول سيد قطب هذا الغريب الذي يضرب قواعد التأليف الحديث بعرض الحائط، يفسره أنه كان يفعل هذا في مؤلفاته الأدبية، وسيفعله في مؤلفاته الإسلامية.
في مقاله الثاني المعنون بـ«من مفارقات التفكير! الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال»، قال: «وكتب الأستاذ عبد المنعم خلاف في عدد (الرسالة) الماضي يشير إلى ما نبهت إليه من سرقة المؤلف لأفكاره في كتابه (أؤمن بالإنسان) وادعائه أنه لم يسمع بموضوع هذا الكتاب».
وقال: «أعود فأستدرك، فلعل هناك اتهاماً للأستاذ عبد المنعم، وطعناً في ضميره ووطنيته، حين نذكر أن فكرة الأغلال مسروقة من كتابه (أؤمن بالإنسان) إنها مسروقة نعم في عمومها وفي الكثير من قضاياها، ولكن الأستاذ كان يعالج فكرته في استقامة ونزاهة، ويحسب للدين للخلق وللضمير حسابهم في قيم الحياة».
اتهامه القصيمي بسرقة كتابه من كتاب خلّاف بدأ من هذا المقال. واتهامه بالسرقة في هذا المقال مقتصر على سرقة الفكرة في عمومها وفي الكثير من قضاياها. وفي هذا المقال دلّس سيد قطب على القارئ، فهو – كما رأينا - لم يتهم القصيمي في مقاله الأول بالسرقة.
في مقاله الثالث المعنون بـ«غفلة النقد في مصر»، قال: «ويزيد عليها: فكرة مسروقة بنصها وبجزئياتها وبشواهدها من كتاب شاب يعيش وكتابه حديث الصدور لم يبعد به الزمن فينسى... ليتخذ من ذلك ستاراً طويلاً عريضاً يلف به دعوة غير نظيفة، للاستعمار والمستعمرين».
وقال: «فأما الأولى: فهي قضية الأستاذ عبد المنعم خلاف في كتابه (أؤمن بالإنسان) وقد شغلت من كتاب (هذه هي الأغلال) نحو أربعين صفحة أولاً، وتغلغلت في ثنايا الكتاب كله أخيراً».
وقال: «أما الجواب عن السؤال الثالث، فهو فضيحة الفضائح فما عهدت أن يعمد مؤلف إلى مؤلف حي، فيقبض فصولاً كاملة من كتابه قبضاً، ويمهرها بتوقيعه ويطلع بها على الناس. جرأة نادرة، ولكنها جازت على النقد في مصر».
وقال: «فما بال كتاب صدر منذ عهد قريب، ونشر قبل ذلك فصولاً في مجلتين مقروءتين، ثم يجيء كاتب فيهجم هجوماً بشعاً على فكرته، وطريقة عرضها، وبراهينها وأدلتها، ثم لا يجد ناقداً يقول له: مكانك فهذا استغفال!».
اتهام مضطرب لأنه في المقال الأول رأى أن القصيمي في كتابه المكون من ثلاثة عشر فصلاً ومقدمة طويلة، أنه في الفصل الأول وليس في الفصول الأخرى انتفع من كتاب خلاف انتفاعاً كاملاً تاماً. وموضع الإدانة حسب زعمه لم يكن عدم إشارة القصيمي أنه في الفصل الأول استفاد من كتاب خلاف استفادة كبيرة، وإنما إنكاره أنه قد «سمع» باسم الكتاب قبل أن يسمع باسمه من سيد قطب! هذا الرأي تطور في المقال الثاني إلى اتهام له بالسرقة. وهذا الاتهام في هذا المقال تراوح ما بين اتهام له بسرقة «أفكار» في الكتاب، وسرقة «فكرة» الكتاب في عمومها وفي الكثير من قضاياها من دون أن يخص الفصل الأول بهذا الاتهام أو فصولاً بعينها. اتهامه هذا سيكون في المقال الثالث أكثر تحديداً، فلم يعد الاتهام اتهاماً بسرقة فكرة الكتاب العامة وسرقة الكثير من قضاياها، وإنما سرقتها حرفياً بكل جزئياتها وشواهدها واتهام بسلخ الفصل الأول من كتابه من كتاب خلاّف، وسرقة على نحو أقل وضوحاً في الفصول الأخرى. واتهام بأنه لم يعف عن سرقة بعض فصول من كتاب خلّاف، بل نهبها كلها.
واتهام طائش لأنه لم يستطع إثبات تهمته، رغم ادعائه بتوفر قرائن الاتهام، كنص الفكرة وجزئياتها وشواهدها، وطريقة عرضها وبراهينها وأدلتها. وللحديث بقية.