بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

حضارية استفتاء اسكوتلندا.. درس للآخرين

سرني صباح أمس أن اسكوتلندا رفضت الاستقلال بتصويت الأغلبية لصالح استمرار المملكة المتحدة، بأضلاعها الثلاثة، إنجلترا، ويلز، واسكوتلندا. لقد انتصر صوت العقل على تأجج العواطف. أستأذن لحظة لأقطع استرسال سياق المقال. لقد مررت بتجربة حلم يقظة قصير جدا. ما إن فرغت من سماع نبأ فوز فريق «لا للاستقلال»، الاسكوتلندي، حملتني سفينة الزمن ثمانية أعوام في زيارة خاطفة للماضي، وإذ أرست مراسيها على شاطئ قطاع غزة، سمعتُ هاتفًا ينادي من مقر رئاسي يقال له «المنتدى»، يقع على مرمى حجر من معسكر لاجئين، ويقول إن نتيجة الاقتراع في الانتخابات النيابية أعطت أغلبية الأصوات لحركة حماس، ويضيف أن السلطة الوطنية تهيب بجموع الشعب كي تهب يدًا واحدة، فيرى العالم أجمع كيف ينطلق الفلسطينيون كافة، من كل طيف وبكل فصائلهم، على طريق الاستقلال، يواصلون بناء دولتهم المستقلة، على الرغم من أي عقبات أو صعاب قد تواجههم. لماذا افتراض أن المنادي، بحلم اليقظة ذاك، كان من داخل المقر الرئاسي؟ لأن رئيس الناس في أي بلد هو قائد للناس كافة، مع ذلك فإن التساؤل صحيح لأن المُفترض أن رئيس السلطة الفلسطينية ليس طرفًا في الانتخابات النيابية، ومن ثم الأصح هو أن تبادر قيادة حركة فتح فتشد على يد حركة حماس وتجدد العزم على العمل معًا لأجل الصالح الفلسطيني. مع الأخذ في الاعتبار أن مجاملات التهنئة التقليدية حصلت، لكن المصادمات التي تبعتها نسفت كل شيء.
ذلك مشهد فلسطيني استحضرته مشاهدتي السيد أليكس ساموند، الوزير الاسكوتلندي الأول، الذي قاد حملة استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة، يبادر إلى قبول نتيجة الاستفتاء، فيقبل الهزيمة، ثم يبادر فورًا إلى دعوة أنصاره أولًا للقبول بها أيضًا، والانطلاق نحو ترميم أي شقوق أو تصدعات أحدثتها مخاضات حملة استفتاء الاستقلال منذ انطلقت قبل عامين، لكنها احتدت بشكل لافت خلال الأسابيع الأخيرة، فأوقعت من الخضات داخل المجتمع البريطاني ما سيحتاج، بلا شك، لكثير جهد للوصول إلى أقرب درجة انسجام ممكنة تعيد بناء جسور ثقة اهتزت، ليس فقط بين أهل أضلاع المملكة المتحدة الثلاثة، بل أيضا ما قد يكون نشأ من خلل على صعيد حضور بريطانيا الدولي في غير ميدان، نتيجة صراع القوة، الذي فرضته معركة الاستفتاء بين مقر الحكم في ويستمينستر (لندن) ومركز تيار الاستقلال الاسكوتلندي (غلاسغو)، بكل ما شهدته من تبادل لنيران الاختلافات السياسية والاقتصادية.
بالتأكيد، ستعبر أم الديمقراطيات البرلمانية أكثر تجاربها الديمقراطية إثارة منذ قرون، ولن يكون من العسير أن تتعافى المملكة المتحدة من آثار معركة استفتاء استقلال اسكوتلندا، وتواصل إغناء تراثها الديمقراطي ونموها الاقتصادي وحضورها الدولي. تُرى هل يمكن لما جرى بأرض هذا البلد أن يضرب المثل لبعض الأقوام علها تتعلم كيف يمكن للديمقراطية أن تمارَس على نحو حضاري، ومن دون إخلال بصحة المجتمع وعافيته على كل الأصعدة؟
آمل ذلك، والعرب أولى من غيرهم أن يستفيدوا مما جرى من المثال الاسكوتلندي. لقد بدأت باستحضار العلاقة بين حركتي فتح وحماس عشية انتخابات 2006، والكل يعلم كيف تدهورت الحال بينهما، من سيئ إلى أسوأ، فتدهور معها حال الفلسطينيين كلهم، عدا النافخين بنار الانقسام. معروف للقاصي والداني تسلسل مآسي ذلك الصراع، وواضح للجميع تبادل الاتهامات، وتحميل هذا الطرف لذاك مسؤولية، لكن النتيجة تظل واحدة: الفلسطيني غير المسؤول هو من يدفع ثمن صراعات المنصبين أنفسهم زعماء فصائل وحركات. بيد أن التخلف الديمقراطي في العالم العربي، ليس حكرًا على الحالة الفلسطينية وحدها، فأينما وليت وجهك شطر أي «ممارسة ديمقراطية» بعالم العرب، قبل «ربيعهم» وبعده، لن تجد سوى النزر القليل من إشارات تقدم تزيح من الطريق سمات تخلف لا تزال تضرب جذورها بعمق الوعي، فلا المنتصر يريد أن يعمل مع غيره، ولا المنهزم يرغب بقبول حق خصمه في أن يُجرّب. أما عن ولاءات أحزاب العالم العربي خارج بلادها، وارتباطات أجنداتها بمصالح من يرتق جيوب زعمائها، فحدث بلا حرج. حسنًا، طالما بقي هذا هو حال الممارسة الديمقراطية في أرض ديمقراطية العالم العربي، قد تعوّض الآن متعة التفرج على جمال الطبيعة في اسكوتلندا، وحضارية ممارسة أهلها للديمقراطية.

*****
تنويه واعتذار:
تشكل آيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة، ومن ثم فهي ضلعها الرابع إضافة إلى الأضلاع الثلاثة ويلز واسكوتلندا وإنجلترا. الأرجح أن التعجّل في إنجاز المقال صباح إعلان نتيجة الاستفتاء تسبب بوقوع الخطأ. مع ذلك، يبدو لي أن سبباً إضافياً يتعلق بالوضع التاريخي لآيرلندا الشمالية لعب دوراً، بلا قصد مني، في إخراجها من الاتحاد الرباعي فأسقطها من المقال. آمل أن أعود في مقال مقبل إلى ذلك السبب بالتفصيل. إنما يبقى أن التنويه بالخطأ والاعتذار عنه واجب.