جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: في ظل الفوضى لا وقت للتفكير

أزمة الصراع الدموي على السلطة في ليبيا ما زالت تتصاعد. فهي ما إن تغادر نفقاً صعباً حتى يبتلعها آخر أكثر صعوبة، وأشد عتمة. وهي، مع مرور الأيام، تزداد تعقيداً وتتصاعد وتيرتها عسكرياً، ويتضاعف ضررها بشرياً ومالياً وعمرانياً.
الغريب أن كل الأطراف المتحاربة، ومن يدعمها من الأطراف الدولية والإقليمية، تعرف تماماً، من خلال التجربة المريرة، أنه لا طرف فيها قادر على حسم الأمر لصالحه عسكرياً. وفي الوقت نفسه، تصر جميع الأطراف على رفض فكرة العودة إلى الجلوس حول مائدة التفاوض بغرض التوافق والاتفاق على الوصول إلى حل مرضٍ يضمن مصالح كل الأطراف.
ووفقاً لإحصائيات صادرة عن مكتب بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، فإن عدد القتلى في الحرب الأخيرة التي بدأت في شهر أبريل (نيسان) الماضي وصل إلى أكثر من 1100 قتيل، منهم 106 من المدنيين. ناهيك مما تعرض للتدمير والتخريب من بنيان، وما نجم عن ذلك من نزوح للعائلات في مناطق الاقتتال.
الحرب الدائرة، حالياً، متميزة، بلجوء الأطراف المتحاربة، إلى استخدام سلاح الطيران، في المعارك، وهذا تغير نوعي عسكرياً، آخذين في الاعتبار أن الطائرات المستخدمة أغلبها من أنواع قديمة، وتفتقد الدقة في الإصابة، وصاحبها، أيضاً، استخدام الطيران المسير، في الاستطلاع، وفي المعارك، ناهيك عن تدفق الأسلحة والذخائر من كل حدب وصوب، الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة أمد الاقتتال، وتعاظم الأضرار.
كل ذلك يحدث، في استمرار انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، في طقس صيفي قائظ، وفي تفاقم تراكم القمامة، حتى تكاد العاصمة تتحول إلى مكب مثير للتقزز، بروائح خانقة، ومستقطب للآفات والحشرات، ومسبب للأمراض، وفي غياب معظم الخدمات العامة، وغياب السلع الضرورية والمواد الطبية، وتواصل مشكلة عدم وجود سيولة نقدية في المصارف، وتزايد معدلات الجرائم بمختلف أنواعها، في عاصمة، يعيش بها أكثر من مليوني مواطن، بلا إدارة قادرة، أو مهتمة بحل مشاكل المواطنين، ولا تجيد سوى إهدار الأموال، والتنصل من المسؤوليات، والتشبث بالمناصب والمواقع.
في إحاطته الأخيرة، لمجلس الأمن الدولي، هذا الأسبوع، أكد رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا السيد غسان سلامة، ضرورة عودة الأطراف المتنازعة إلى موائد التفاوض لاستحالة الحل العسكري، ولتزايد مساحة رقعته جغرافياً مؤخراً، ولتفاقم أضراره. أضف إلى ذلك، لجوء الأطراف المتنازعة إلى تجنيد واستخدام المرتزقة في المعارك، وما شهدته إشكالية المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين من تطورات مأساوية، خلال فترة الحرب.
الضالعون في العمل الدبلوماسي يجيدون، بحكم الخبرة، أكثر من غيرهم قراءة وفهم ما يرد ويصدر من تصريحات وإحاطات سياسية، مثل التي قدمها السيد سلامة، مؤخراً، وذلك بنزع القشرة الخارجية عنها، ومحاولة قراءة المضمون القابع ما بين السطور، والمغلف بدثار منسوج من أبجدية لغة دبلوماسية، تبدو على السطح محايدة.
أول تلك المضامين التحذير من أن يظل حاضر ليبيا ومستقبلها رهينة للأطراف المتحاربة. وهذا، يعني، تحديداً، دعوة عاجلة للمجتمع الدولي للتدخل، وافتكاك المبادرة من الأطراف الليبية، والبدء فعلياً في ممارسة ضغوط سياسية على كل الأطراف لتقبل بوقف القتال، والعودة إلى التفاوض. والضغوط المطلوبة لا تأتي إلا من الأطراف الأجنبية التي تتطاحن فوق التراب الليبي من أجل مصالحها، وحل خلافاتها.
لذلك، فإن أهم ما ورد في إحاطة السيد سلامة الأخيرة، هو الخروج بالمسألة الليبية من إطارها المسدود، وذلك بدعوته، المجتمع الدولي لتدويل القضية، بوصفه حلاً أخيراً، يقوم على شرط اتفاق الأطراف الخارجية المتورطة في الصراع، لبدء مفاوضات جديدة، من خلال ممارسة ضغوطها، على الأطراف المحلية، لإجبارها على وقف الاقتتال، ومحاولة حل الخلافات عبر التفاوض، لأنه، كما شدد: «لا يمكن إرجاء قرار وقف الحرب إلى أجل غير مسمى».
السيد سلامة، وضع خريطة طريق، تقوم على «عقد اجتماع دولي يتبعه اجتماع ليبي يضم الشخصيات القيادية المؤثرة في جميع أنحاء البلاد، للاتفاق على العناصر الرئيسية في سبيل المضي قدماً». وهذا، في اعتقادي، عودة بالأحداث الليبية إلى نقطة ما ووضعها، مجدداً، في تلك النقطة، وتحديداً، العودة إلى حوار مدينة غدامس.
لا أحد، على وجه التحديد، يعرف مدى تحمس المجتمع الدولي للدخول في مستنقع الأزمة الليبية بغرض المساعدة في إيجاد حل لها. ولا أحد، على وجه الخصوص، من الأطراف الليبية المتنازعة أبدى رغبة، ولو مترددة، في قبول العودة للتفاوض، لأن الجميع، وأقصد الجميع؛ اللاعبين المحليين والأجانب، لا وقت لديهم للتفكير، في ظل هذه الفوضى التي تعصف بالبلاد، والتي فوتت عليها فرصة التنمية والبناء، وعلى أهلها العيش الكريم.