توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

العلمانية الطبيعية: استقلال العلوم

كان العلامة ابن خلدون (ت: 1406م) فقيهاً وقاضياً وعالم اجتماع ومؤرخاً. وكان ابن رشد (ت: 1198م) فيلسوفاً وطبيباً وفقيهاً. وكان أبو الريحان البيروني رياضياً وجيولوجياً وفقيهاً. تستطيع أن تضيف أيضاً ابن سينا والفارابي وابن الهيثم وابن بطوطة والإدريسي، وعشرات أمثالهم جمعوا بين علوم الشريعة وعلوم الطبيعة أو العلوم النظرية والتجريبية.
بعض الناس يرون هذا دليلاً على براعة الأسلاف. لكن لو كان ابن خلدون معنا اليوم أو كان ابن سينا أو البيروني أحياء في هذا الزمان، فلن يواصلوا - على الأرجح - اهتماماتهم المتعددة. وسيكرسون أنفسهم لواحد من تلك العلوم أو لبعض منه.
يندر أن ترى في أيامنا هذه عالماً يجمع العلوم المذكورة، فيكون طبيباً وفقيهاً، أو جيولوجياً وقاضياً أو عالم اجتماع ومفسراً. لا يرجع السبب إلى كسل المعاصرين، بل لاتجاه العلوم بشكل متزايد نحو التخصص، منهجاً وموضوعاً. بل أستطيع القول إن بوادر هذا الميل كانت ملحوظة حتى في ذلك الزمان، واحتمل أن علماء القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، كانوا أكثر ميلاً إلى التخصص من أسلافهم. لكن الاتجاه ككل لم يكن ملحاً كحاله اليوم.
الميل القسري للتخصص انعكس على كل العلوم، بما فيها علوم الشريعة نفسها. لهذا لا تجد اليوم من يجمع بين العلوم المرتبطة مباشرة بالنص الديني، كالألسنية والتفسير، أو علم الحديث والتاريخ. كما يندر أن تجد عالماً متبحراً في أصول الفقه، وهو متبحر بالقدر نفسه في فروع الفقه.
يعتقد المفكر المعاصر عبد الكريم سروش أن ميل العلوم للتخصص، قد قلَّص موضوعات البحث الخاصة بعلم الدين. دعنا نتخيل أنك دخلت «المدرسة النظامية» ببغداد صباح يوم من أيام سنة 1070م مثلاً، سوف ترى حلقات درس الفقه إلى جانبها حلقات علم الفلك والنباتات والأدوية، وحلقات اللغة والتاريخ، وهكذا.
كانت العلوم في حالة تواصل، لأنها كانت قليلة من حيث العدد، ومحدودة من حيث مساحة البحث وعمقه. ولهذا كان بوسع شخص واحد أن يتبحَّر في علوم كثيرة، في آن واحد. أما اليوم فإن «عدد» العلوم قد تضاعف، بسبب انفصال فروع علمية عن أصولها، أو اكتشاف موضوعات بحث لم تعرف سابقاً، ثم اتجاه هذه الفروع إلى بحث التفاصيل الدقيقة، وتفرعها هي الأخرى.
الذي حدث بعد «استقلال العلوم» أن البشر قد حصلوا على أدوات تفسير لعالمهم، من خارج إطار الدين. أو لعل علاقتهم بهذا العالم، قد تطوَّرت من حالة الانفعال وانتظار الأمر والنهي، إلى التأمل والبحث عن تفسيرات لما يجري فيه. أي ازدادت مساحة التساؤل وتقلَّصت مساحة اليقين، وتغير موقف الإنسان من الانصياع، إلى الرغبة في الاستقلال أو السيطرة.
يبدو أن هذا هو الاتجاه الطبيعي، أو ما نسميه منطق التاريخ. في البداية يوفر الدين مفاتيح لفهم العالم، لعلَّ أبرزها الإيمان - الميتافيزيقي أولاً، التجريبي تالياً - بأن الكون نظام دقيق أحادي ومترابط الأجزاء. وبعد أن يتعرف الإنسان على مفاتيح الطبيعة، تتقلَّص وظيفة الدين إلى أخص اهتماماته، أي الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى وربط الإنسان بخالقه. يعتقد سروش أن هذا المسار يؤدي بالتدريج إلى نوع من التخارج بين الدين والعلم، أي ما نسميه اليوم «علمانية». لكنه من نوع المسارات الطبيعية التي لا يمكن إيقافها ما دام الإنسان يواصل تقدمه.