فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

حالات مكروهة في صيف لاهب

بالإضافة إلى ارتفاع درجة الحرارة في منطقة الشرق الأوسط التي اعتادها الناس، وفي بعض دول أوروبا التي تجاوزت الأربعين؛ فكان إعلان حالة طوارئ غير مسبوقة منذ أكثر من نصف قرن للتعامل الإنساني والوقائي مع هذا الارتفاع الأربعيني، عشنا حالات لها فِعْل الدهشة المقرونة بالخوف مما هو أعظم من الذي عشناه، وترك في النفوس مخاوف من أن يتطور العنف وثقافة الرصاص والديناميت والكلام الخالي من الأصول، إلى أن يصبح هذا العنف لغة التعامل في الآتي من الزمن.
بداية الحالات كانت تلك العملية الهمجية لإحراق سهول في سوريا والعراق كان الناس في انتظار حصيد قمحها وشعيرها، وبذلك لا خوف من المجاعة ما دامت الحنطة موجودة، والإهراءات ملأى، والأفران جاهزة للخَبْز. ثم إذا بنيران داعشية تحوِّل إلى رماد حقولَ السنابل الذهبية المنتظِرة حصْدها بالطرق الحديثة، وبالمناجل إذا اقتضى الأمر، ونقْلها إلى بيادر الخير... فإلى الأكياس، ثم التخزين في الإهراءات بعد تأمين متطلبات المطاحن.
ليست أمراً مستغرباً الحرائق في أيام الصيف. ومثل هذا الأمر يحدث حيث هناك غابات وبساتين، سواء في كاليفورنيا أو أستراليا، أو في غابات الصنوبر والأشجار على أنواعها في لبنان. وهذا على سبيل المثال لا الحصر. ونقول إن الأمر ليس مستغرباً على أساس أن لنُزهات الناس في الأزمان الصيفية بالذات متطلبات، من بينها إشعال النار من أجْل شراب ساخن، أو للشواء، وحديثاً لتأمين جمرات لجلسات تدخين الشيشة. وتكفي شرارة حطبة لإحداث حريق. لكن الأمر المستغرب هو أن يصبح الإحراق المتعمَّد فعل إجرام شأنه شأن عمليات التفجير بحزام ناسف في جمْع من الناس العاديين، أو برجال أمن يقومون بدورية للاطمئنان على حياة الناس. والإحراق المتعمد هنا هو الأقل كلفة، فضلاً عن أن الأذى يصيب ملايين وليس فقط أفراداً، ذلك أن أطنان القمح التي ستنشأ عن حصيد السنابل قبْل إحراقها كانت ستصبح مصدر غذاء لملايين من الكبار والصغار. وعملياً فإن الإحراق الداعشي ألحق الأذى بأربعين مليون سوري وعراقي كرقم افتراضي وتقريبي يستهلك كل منهم بمعدل أربعة أرغفة في اليوم الواحد.
وحيث إن الداعشية لم تندثر، وإن كان الرئيس ترمب تباهى يوم الخميس الماضي (25 يوليو/ تموز 2019) في احتفالية تنصيب وزير الدفاع الأميركي الجديد بأنه تم القضاء على «داعش» في سوريا والعراق، فإن جريمة إحراق المحاصيل التي أشرنا إليها تستوجب أقصى درجات التنبه من عمليات داعشية تتم في هذا الصيف الملتهب حرارة، كأن يستهدف الدواعش محطات الكهرباء الرئيسية أو محطات التحويل، كما يكفي ذات ليل تقطيع أسلاك لتعطيل التيار الكهربائي في مناطق. وقانا الله من هذا الشر المستطير.
ثانية الحالات ذلك الفعل الداعشي الغرض إنما بتدبير إسرائيلي. ففي زمن الغطرسة الإسرائيلية بأقصى درجاتها نجد الجرافات تدمر بيوتاً لفلسطينيين تم تعميرها بجهد فلسطيني وعلى أرض فلسطينية أباً عن جد. وإلى هنا، يبدو الأمر طبيعياً ما دام الآمر والجارف إسرائيلياً، وتحديداً نتنياهوي النيات الشريرة والعدوانية، وما دام لا خشية من قرار إدانة يُصدره مجلس الأمن في حقه، لأن هذا القرار موضع رفْض من أميركا الحاضنة لإسرائيل الغافرة لها أخطاءها وخطاياها، الساكتة عن تجاوزاتها، المتفهمة أسلوب جرّافاتها التي تحوِّل منازل فلسطينيين إلى أنقاض. ولكَمْ كان المرء يتمنى هذه المرة بالذات لو أن يد «الفيتو» الأميركي لم ترتفع دون سائر الأيدي يوم الأربعاء 24 يوليو لمنع صدور بيان من مجلس الأمن الموسَّع لا يهدد إسرائيل بالويل والثبور، وإنما فقط يندد، وتعبِّر الدول الصديقة للولايات المتحدة، وهي الكويت وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، التي صاغت مسوّدة البيان عن القلق البالغ والتحذير من أن عملية الهدم تقوِّض السعي للحل الذي يقوم على الدولتيْن. وحتى عندما جرى تعديل على مسودة البيان، وبحيث إن لهجته خلت مما يمكن أن يستوجب الحذر، فإن يد «الفيتو» بقيت، مع أن «الحل الصفقة» الموعود يحتاج على الأقل نوعاً من تخفيف هذا التسليم بممارسات إسرائيل العدوانية، وكأنما «شِرعة اغتصاب حقوق الشعوب» تتقدم على «شرعة حقوق الإنسان».
لعل خطوةً ما تصدر عن إدارة الرئيس ترمب، بعد أن تطمئن نفسه إلى أن الولاية الثانية باتت باليد، ثم يعزم ويتوكل ويطرح «صفقة العصر» بصيغة ومضمون لا يكون فيها الفلسطيني في خُسْر. وبذلك يصبح ارتضاء العربي من ارتضاء الفلسطيني.
وتبقى الحالة الثالثة، وهي خاصة بلبنان دون غيره، ذلك أن اللبنانيين عاشوا طوال معظم أيام شهري يونيو (حزيران) ويوليو احتفاليات لا نظنها تحدُث في ديار آخرين، وهي أنه كلما وجدت عائلة أن ابنها، أو ابنتها، فاز في الشهادة الابتدائية أو التكميلية أو الثانوية تبدأ إطلاق المفرقعات التي لبعضها قوة صوت الرصاص الحي. وحيث إن الناجحين من الجنسيْن في الامتحانات النهائية بالألوف يتوزعون على بلدات وقرى إلى جانب المدن الكبرى، فإن أصوات المفرقعات في ساعات نهارية وليلية، تبعاً لإعلان النتائج، كانت تنتقل من مكان إلى مكان، حيث بيوت الساكنين المبتهجين بفوز الأبناء والبنات بشهادات... يعلم الله وحده إذا كان ما سمعه اللبنانيون المكابدون في أكثريتهم وضعاً اقتصادياً ومعيشياً بالغ الخطورة من رئيسهم، الجنرال ميشال عون، يقوله يوم الأربعاء 24 يوليو سيتحقق، وبالتالي ستنحسر هواجس الخوف من المستقبل والتوق إلى الهجرة.
وللتذكير، فإن القول الرئاسي هذا كان أمام 150 طالباً من 30 جامعة حضروا إلى القصر الرئاسي، وقال الجنرال الذي لم يحسم أمر عقْد جلسة مؤجلة - معطَّلة لمجلس الوزراء إنه سيسلِّم خلَفه «وطناً أفضل بكثير مما هو عليه اليوم».
لماذا هذا الابتهاج المفرقعاتي؟ هل هو لتفريج ما في الصدور من الهموم، أم إنها ثقافة العنف المتأصلة في النفوس والرديفة للسلاح المتفلت؟ وفي نهاية الأمر تسود ظاهرة الشر وأفعال الأشرار. ومَن يعش يرَ.