عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ترمب والسفير البريطاني والمصالح العربية

توتُّر العلاقة الدبلوماسية بين إدارة الرئيس دونالد ترمب والمؤسسة السياسية البريطانية، المقلق هنا في لندن، يجب أن يثير قلقاً أكبر في الخليج، في رأيي المتواضع كمؤرخ وكمراسل غطيت حروب الخليج الثلاث (ما بين 1980 و2003).
بريطانيا صديق تاريخي للعرب (في مواقف متكررة كحماية الملاحة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، وتحرير الكويت) ومن الضرورة سرعة تحرك العرب للتنسيق مع لندن وإدارة ترمب، لتأسيس تحالف دولي للبلدان التي ستتضرر من تهديد إيران للملاحة في الخليج يبدأ بتفهم طريقة تفكير الرئيس الأميركي سياسياً.
بلدان التعاون الخليجي تعي أنه بلا تحالف بقيادة أنغلو أميركية قد تستحيل حماية أمن الخليج من المخالب الإيرانية التي تهدد استقرار المنطقة من ساحل المتوسط إلى جنوب الجزيرة العربية ما بين مضيقي هرمز وباب المندب.
لعدد من الدبلوماسيين الناضجين العرب علاقات شخصية وثيقة مع زملائهم البريطانيين تمكّنهم من شرح أهمية تجاوز الأزمة مع الرئيس ترمب لرسم استراتيجية لحماية المصالح العربية البريطانية المشتركة.
أسلوب العمل الدبلوماسي التقليدي للخارجية البريطانية (وكثير من مثيلاتها العربية) تجاوزته طريقة الرئيس الأميركي في إدارة سياسته. مما أدى إلى سوء تفاهم بعد تسريب متعمّد لتقرير السير كيم دوريك، سفير المملكة المتحدة في واشنطن، متضمناً عبارات لا يستخدمها الدبلوماسيون علناً.
ترمب ليس بسياسي سميك الجلد، وإنما رجل أعمال من خارج المؤسسة السياسية، فردَّ «الإهانة» بعشرة أمثالها على «تويتر».
بحساباته السياسية في منافسة الزعامة لحزب المحافظين الحاكم قفز وزير الخارجية جيريمي هنت، على الأزمة بدعمه سفير بلاده ضد ترمب، شأنه شأن رئيسة الوزراء تيريزا ماي (المنتهية رئاستها في ثمانية أيام) وتريد هنت خليفة لها (يُعرف في أوساط وستمنستر بـ«تيريزا بالبنطلون») نكايةً في المرشح الأكثر شعبية بوريس جونسون، الذي استقال، كوزير للخارجية، احتجاجاً على صفقتها مع الاتحاد الأوروبي.
الرئيس ترمب، في انتقاده للسيدة ماي وسياستها، بدأ تغريداته بتأكيد حبه لبريطانيا وشعبها (أمه بريطانية من اسكوتلندا) واحترامه للملكة؛ وبدلاً من اعتبار المديح باباً تركه موارباً لإصلاح العلاقة تجاهلته الصحافة اليسارية كـ«بي بي سي» والشبكات التلفزيونية المناهضة لـ«بريكست».
الوقيعة بين واشنطن ولندن حلم تاريخي لليسار البريطاني والأوروبي الذي يدعم الحركات الإسلامية المتطرفة وإيران ويحمّل سياسة بلاده وأصدقائها العرب المسؤولية بدلاً من تحميلها للإرهابيين، ويبرر الدور الإيراني التخريبي.
كلمة سفير بالإنجليزية (ambassador) ظهرت في القرن الرابع عشر وكانت أيضاً تُكتب (embassateor) من اللاتينية (ambactus) أي خادم. أي أنه خادم لمصالح بلاده وأهمها الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع البلد المضيف.
السير كيم ذو خبرة ويتمتع باحترام الأوساط الدبلوماسية؛ ومن مهماته كسفير، تقديم تحليل واقعي من المعلومات التي يجمعها قسم المخابرات في سفارته وملحقيه واتصالاته الشخصية، لتتمكن الحكومة في لندن من رسم السياسة تجاه واشنطن. العملية مستمرة لأجيال لكنّ هناك واقعاً جديداً.
وسائل الاتصال الحديثة ليست كالبرقيات المشفرة القديمة التي تُحرق باستثناء نسخة الأرشيف، فالبريد الإلكتروني يبقى في كومبيوترات متعددة قابلة للاختراق.
كما أن ترمب لا يتعامل بالوسائل التقليدية التي كان رفضه لها وراء شعبيته ونجاحه في الانتخابات (وعلى الأرجح سيفوز بولاية ثانية)، وداخلياً بالتخلص من مستويات بيروقراطية (لا يزال لها مستويات متعددة مقابلة في وزارة الخارجية البريطانية ومثيلاتها الأوروبية والعربية) دفعت بالاقتصاد الأميركي ليصبح الأسرع نمواً بين اقتصادات الدول الصناعية المتقدمة، وأميركا أصبحت مكتفية من الطاقة وعلى وشك أن تعود إلى موقعها في مطلع القرن العشرين كمصدّر للبترول.
لذا يستحق التوقف عند تقرير السفير البريطاني بأن إدارة ترمب «مختلة يشع منها عدم الشعور بالأمن، وغارقة في الفضائح» بشأن مصادره، وأيضاً فشله في صياغته بكلمات بديلة لا تستفز الرئيس، خصوصاً باحتمال التسرب.
السفير ينتمي إلى مدرسة قديمة ملائمة للقرنين الماضيين. كان سفير المملكة المتحدة لدى الاتحاد الأوروبي وهو ليبرالي يدعم الوحدة الأوروبية وأكثر اقتراباً من بيت كلينتون والديمقراطيين. وجاء اختيار الحكومة البريطانية له في 2015 بناءً على تقديرات سفارتها في واشنطن بأن الرئيس الخامس والأربعين سيكون ديمقراطياً، وعلى الأرجح هيلاري كلينتون، كامتداد لسياسات إدارة أوباما.
جاء انتخاب ترمب بعد عام، مثل تصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، مفاجئاً مخالفاً لتقديرات التقارير الدبلوماسية وتحليلات الخبراء.
الاستثناء كان جونسون كوزير للخارجية (يوليو «تموز» 2016 – يوليو 2018) نجح في تعاطيه مع الرئيس ترمب الحساس للنقد العلني.
فمثلاً بعد قرار ترمب حظر منح التأشيرات التلقائية للقادمين من بلدان أخفقت في منع الإرهاب (كاليمن وليبيا والسودان والصومال والعراق وإيران وسوريا) بعث جونسون برسالة إلى تليفون جاريد كوشنر، زوج ابنة الرئيس، يطلب استثناءات لحملة الباسبور البريطاني، وتمت الموافقة بهدوء، وحنق الدبلوماسيون الرسميون لتجاوزهم. جونسون، المتوقع أن يكون رئيس الوزراء في نهاية الأسبوع المقبل، يعرف كيف يتعامل مع رئيس يرسم السياسة على «تويتر» ويتجاوز بيروقراطية الدبلوماسيين.
الليدي ثاتشر تجاوزت بيروقراطية الخارجية في أثناء إدارتَي ريغان وبوش الأب، وكانت تتصل بنفسها بالبيت الأبيض بعد معارضة الخارجية لموقفها المتشدد من إيران، وعيّنت السفير السابق في طهران الراحل السير أنتوني بارسونز مستشاراً مستقلاً عن الخارجية.
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية أرسلت البحرية الملكية سفنها في عملية «دوريات الأرميلا» ابتداءً من خريف 1986، وكانت تبحر كدرع بين الناقلات والساحل الإيراني أو زوارق «الحرس الثوري» الإيراني.
إيران كانت يومها أضعف كثيراً من إيران اليوم؛ فلم يكن العراق واقعاً تحت النفوذ الإيراني الكامل. واليوم لإيران عملاء وخلايا نائمة على الجانب العربي من الخليج، و«الحرس الثوري» ومقاتلو «حزب الله» في اليمن وسوريا ولبنان.
البحرية الإيرانية لا تستطيع الصمود لساعات قليلة أمام البحرية الملكية البريطانية، لكنها تستطيع خوض حرب «asymmetrical»، أي غير متكافئة، يمكن فيها «للبعوضة أن تدمي مقلة الأسد»، كإيقاظ الخلايا الإرهابية النائمة أو توجيه ضربات إلى المراكز العربية في الخليج.
لذا فالتحرك العربي السريع للتعاون مع إدارة ترمب، والعمل على إعادة روح التنسيق الأنغلو أميركي - العربي كنواة القوة البحرية الدولية لحماية الملاحة في الخليج، ضرورة ملحّة في وقت لا يقل خطورة عن الثمانينات عندما وسّعت إيران الحرب مع العراق من البصرة حتى مضيق هرمز.