د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

كيف استفادت فيتنام من الحرب؟

مثير للاهتمام ما يحدث هذه الأيام في فيتنام، الدولة التي لم يتوقع أحد يوماً أن تستفيد من نزاعات الولايات المتحدة الأميركية. فبعد أن بدأت الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، أعاد كثير من الشركات النظر في الاستثمار في الصين، وبدأت في البحث عن بدائل للاستثمار، خصوصاً في القطاعات الصناعية المعتمدة بشكل مكثف على اليد العاملة. وتنوعت اختيارات الشركات بين فيتنام وميانمار وكمبوديا وتايوان، إلا أن نصيب الأسد من الأعمال التجارية كان من نصيب فيتنام، فانتقل كثير من المصانع من الصين لها، مستغلة وجود اليد العاملة المؤهلة هناك، إضافة إلى البنية التحتية المهيأة للقطاع الصناعي. وبلا مبالغة، فإن للحرب الاقتصادية أثر تاريخي في الاقتصاد الفيتنامي منذ بداية هذا العام وحتى الآن.
ففي الأربعة أشهر الأولى وحدها من عام 2019، زادت الصادرات الفيتنامية لأميركا بما يقارب 40 في المائة، بسبب زيادة الصادرات الصناعية، مثل النسيج والأحذية والأثاث والمأكولات البحرية، وحتى الهواتف الذكية والحاسبات. ومقارنة بالعام الماضي، وصلت الاستثمارات الأجنبية في فيتنام إلى 18 مليار دولار، بزيادة قدرها 20 في المائة، ويعد هذا الرقم ضخماً لفيتنام (ما يقارب 58 في المائة من الناتج القومي الفيتنامي). كما أن الناتج القومي زاد بنسبة 6.7 في المائة، مقارنة بالربع الثاني من عام 2018.
ويتضح أن كل هذه الزيادات هي بسبب الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة؛ خصوصاً أن فيتنام تصنع منتجات مشابهة للسلع الصينية التي فرضت عليها الولايات المتحدة رسوماً جمركية، إضافة إلى أن الولايات المتحدة – حتى قبل بداية الحرب الاقتصادية – هي أكبر مستورد من فيتنام. ولأجل ذلك انخفضت الصادرات الصينية لأميركا خلال هذه الفترة بنسبة 13 في المائة، وهو الانخفاض الأكبر منذ الأزمة المالية عام 2009. وعلى سبيل المثال، زادت نسبة الحاسبات المصدرة من فيتنام لأميركا بنسبة 79 في المائة، بينما نقصت هذه النسبة من الصادرات الصينية بنسبة 13 في المائة. وكذلك هو الحال للهواتف الذكية، فقد تضاعف حجم الصادرات الفيتنامية لأميركا، ونقصت الصادرات الصينية بنسبة 27 في المائة. وبشكل إجمالي فقد زادت الصادرات الصناعية الفيتنامية للولايات المتحدة بنسبة 9 في المائة، وزادت صادرات الخدمات بنسبة 6.8 في المائة، والزراعية بنسبة 2 في المائة. كما أن فيتنام أيضاً استغلت فرض الصين رسوماً جمركية على البضائع الأميركية، فزادت صادراتها للصين كذلك، وإن كانت هذه الزيادة أقل بكثير من مثيلتها للولايات المتحدة.
وقد سبق للحكومة الفيتنامية إعلان خطة للتدريب المهني لأكثر من مليوني مواطن للعمل في القطاع الصناعي. وكان ذلك قبل الحرب الاقتصادية؛ حيث إن الصين تعاني حالياً من ارتفاع تكلفة اليد العاملة، مما جعل الصناعات المعتمدة على اليد العاملة تبحث عن دول بديلة ذات أيد عاملة أقل تكلفة. وكأن فيتنام أصبحت تلعب الدور الذي كانت تلعبه الصين قبل عقدين من الزمان؛ حيث استطاعت الصين حينها إعلان خطط تدريبية لرفع مهارة اليد العاملة، مكنتها – إضافة إلى عوامل أخرى - من سحب كثير من الصناعات من الدول الأوروبية التي عانت من ارتفاع تكاليف الأيدي العاملة، حتى خرجت هذه الصناعات منها.
إلا أن فيتنام لا تستطيع حالياً أن تكون منافسة للصين، حتى وإن استطاعت زيادة حصتها السوقية على حساب الصين، فالفارق بين التعداد السكني بين الدولتين يحكم هذه المنافسة، وفيتنام ذات المائة مليون نسمة لن تستطيع منافسة الدولة المليارية. كما أن كثيراً من الشعب الفيتنامي ما زال يعمل في القطاع الزراعي في الضواحي، بعيداً عن المدن الصناعية. هذه الخواص لفيتنام جعل الشركات تعاني من أجل إيجاد اليد العاملة في المصانع التي شهدت نمواً هائلاً خلال هذا العام.
مصائب قوم عند قوم فوائد، هذا ما يلخص حال الفيتناميين في الوقت الحالي، وعلى عكس كثير من دول العالم التي تتمنى أن تنتهي الحرب الاقتصادية، فإن الفيتناميين كانوا قلقين خلال قمة العشرين الأخيرة من أن يصل الأميركيون والصينيون لحل لهذه الأزمة. فهم في الوقت الحالي يحاولون استغلال الفرصة لنمو القطاع الصناعي لديهم، بل وأصبح هاجسهم هو تدريب اليد العاملة التي أصبحت هي عنق الزجاجة في تنمية الصناعة، في وقت بدأت فيه الصناعات الهجرة من الصين تماماً، كما هاجرت لها قبل عقود.