أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

تفاقم معاناة اللاجئين السوريين في لبنان

ابتعد «أحمد» عن الحاجز الأمني، بينما كانت النيران تلتهم بقايا خيمته المهدمة، قالوا إن السلطة العليا قررت إزالة خيامهم لأسباب أمنية واقتصادية. أمسك جيداً بيد طفلته الصغيرة، وسارع الخطى وهو يشيح بوجهه، كي يخفي دمعتَي قهر بدأتا، رغماً عنه، تنفران من عينيه. كان السؤال الأقسى الذي يقلقه: أين يذهب الآن؟ وكيف يوفر مأوى جديداً لزوجته وطفلتيه؟ هو يرغب حقاً في الخلاص مما صار يسمى عند اللاجئين السوريين «جحيم لبنان»، ويريد العودة إلى أرضه وقريته؛ لكن ليس الأمر خياراً اليوم، وهو المتيقن أن العودة إلى مناطق السلطة تعني تسليم نفسه لجحيم أشد هولاً، وغالباً لموت محقق بعد تنكيل وتعذيب، والأمر ذاته في الذهاب إلى إدلب وأرياف حماة وحلب، فالنازحون هناك يهربون من وطأة الحياة التي يفرضها الإسلامويون المتشددون، ومن أتون القصف السلطوي المستمر بالبراميل المتفجرة.
صحيح أن الحرب انحسرت وباتت تقتصر على جبهات معدودة؛ لكن ليس هناك أمان أبداً. انظر ماذا يفعلون برجال المصالحات التي عقدت، يسأل بتوجس، أليس مصيرهم هو الخطف والتغييب والاغتيال؟ قد يقول قائل إن هناك من في السلطة لا يريد المصالحة والتسوية؛ لكن من في السلطة السورية يريد المصالحة والتسوية؟! ها هي مفاوضات جنيف عالقة منذ سنوات، لم يبق عند المعارضة ما تتنازل عنه لقاء حل سياسي هزيل يرفضه نظام يتوغل أكثر فأكثر في القتل والتدمير، ولا هم له سوى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
اعترف بأنني شاركت في كثير من المظاهرات السلمية، وكنت أشتعل حماسة وأنا أردد مع الجموع شعار «حرية حرية»؛ لكني رفضت بشدة حمل السلاح. لم تكن بنيتي الأخلاقية تسمح، فكيف وأنا معلم مدرسة، ألقن الأطفال محبة الآخر وعدم إيذائه. سارعت للابتعاد، واخترت لبنان وجهتي عندما اشتدت المعارك، وغدت قريتي خط تماس بين المتحاربين، فأنا أعرف هذا البلد جيداً، وقد زرته مراراً للمشاركة في ورشات عمل تعنى بتنمية المجتمع المدني، وكنت واثقاً بأن ثمة أصدقاء ومعارف لا يزالون يتذكرونني، ويمكنهم مساعدتي.
لا تسألني عن اللبنانيين - يقاطعك بحزم - هم مثلنا، فيهم الصالح ومنهم الطالح، لكن من يقف معنا اليوم ويخفف من محنتنا ومعاناتنا باتوا قلة، وغالبيتهم من النخبة المثقفة المرتبطة بهموم الإنسان، أو التي عانت من زمن الوصاية السورية. هل لاحظت كم هو ضئيل عدد المشاركين في اعتصام وسط بيروت الأخير، وبدا الصوت ضعيفاً لإدانة تصريحات بعض المسؤولين الذين يفتنهم التفوق الجيني، ويتاجرون بـ«بعبع» التوطين، ويستسهلون تسعير العداء والحقد والكراهية ضد اللاجئين؟! نعم، كان المعتصمون قلة، لكن ما قاموا به يلقى كل الاحترام من جموع السوريين، يمدهم بالقوة؛ لأنهم أكدوا أن مأساتنا كشعبين واحدة، وجوهرها سيطرة طغمة أنانية، فاسدة وعنصرية وشعبوية على مصيرنا ومقدراتنا، ولأنهم لم يقفوا عند مساوئ اللجوء السوري والأعباء التي يخلفها على مجتمع مأزوم اقتصادياً كلبنان؛ بل يثيرون وجهه الإيجابي، إنْ في تحسين الإنتاج وحركة الأسواق، وإنْ بتدفق الأموال السورية إلى البنوك اللبنانية، واستثمارها في قطاعات اقتصادية، وإنْ بحجم المساعدات التي حصلت عليها الحكومة اللبنانية لتمكينها من احتواء اللاجئين.
لقد رفضت المشاركة في مقاطعة البضائع اللبنانية، التي دعا إليها منشور وُزع منذ أيام، لا أعتبر ذلك توجهاً صائباً، يجب ألا نرد على الأذية بأذية، فأصحاب المحلات الصغيرة من اللبنانيين هم مثلنا، لهم عائلات وأطفال يعولونهم، ونعاني معاً من ارتفاع تكاليف الحياة اليومية وشح الخدمات. لا ذنب لهم فيما نحن فيه؛ بل من يعادوننا معروفون، منهم من ذهبوا بأسلحتهم إلى المدن السورية المتمردة كي يخضعوها ويقتلوا خيرة شبابها وكفاءاتها، ولديّ حكايات مؤلمة عما فعلته ميليشيا «حزب الله» هناك، ومنهم من يؤيدون النظام السوري ويشجعون على تطبيع العلاقات معه، ويضغطون لترحيل اللاجئين، ضاربين عرض الحائط بالمعايير الأممية لعودتهم الطوعية والآمنة من دون قسر أو إكراه، ومنهم من سال لعابه لجني أرباح مما تسمى «إعادة الإعمار» أو كان همه الرئيس ابتزاز المجتمع الدولي والبلدان العربية، في قضية اللاجئين، علاوة على ابتزاز اللاجئين أنفسهم، ومنهم ديماغوجيون وشعبويون يخوضون معاركهم السياسية والانتخابية عبر التلاعب على محنتنا، يحاولون الهروب من معالجة الأسباب الحقيقية لأزمات مجتمعهم، وتغطية امتيازاتهم وفسادهم عبر تأجيج العنصرية اللبنانية، وإثارة غرائز السكان المعوزين ضد اللاجئين السوريين، باعتبارهم أساس الداء والبلاء، وتحميلهم أوزار الفوضى والفساد والتردي الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وحتى تلوث الهواء وأزمة القمامة.
يعيد إمساك يد طفلته الصغيرة بقوة، يحاول الحد من حركة رأسها الصغير الذي لا يهدأ وهي تنظر نحو البعيد، يتمعن في ساعته، ويعيد التأكد من الوقت... لقد تأخرت زوجته، يأمل ألا تكون قد تعرضت للأذى، فهي تعمل خادمة لدى أسرة ميسورة في القرية المجاورة. صار قلقه يزداد عليها بعد قرارات منع تجول السوريين مساءً. لا يزال يتذكر ما حل منذ أيام بأحد اللاجئين الذي تعرض لضرب مبرح بذريعة خرق منع التجول. تُرك على قارعة الطريق حتى صباح اليوم التالي، لم يسمحوا لأحد بإسعافه أو نقله إلى بيته، فهل من هدف وراء هذا الحقد والقسوة سوى الإمعان في إرهابنا وإجبارنا على الرحيل؟!
يتابع، والألم يخنق صوته، لقد تواترت الضربات الغادرة علينا من كل اتجاه، لتمعن في إذلالنا واضطهادنا، ولمَ لا، ما دام العالم كله قد خذلنا وأظهر عجزاً وربما تواطؤاً في وقف العنف المتمادي وحماية المدنيين، وتركنا لقمة سائغة أمام أشنع وسائل الفتك والتنكيل، وما دام يجري على قدم وساق التوظيف المغرض والمبالغة في تعميم مسلكيات بعض اللاجئين غير المنضبطة أو المسيئة للقانون، وتحميلنا مسؤولية كل اندفاعة إسلاموية إرهابية فوق الأراضي اللبنانية، لكون كتلتنا الرئيسة تنتمي إلى مذهب تلاحقه أينما حل لعنة الإرهاب. والأنكى، ما دام النظام السوري ذاته، أساس تفاقم محنتنا ومعاناتنا، يأبى الاعتراف بوجودنا، ويجاهر بلا حياء، بأن لا مكان لنا أو حقوق في مجتمعه المتجانس!