عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

جيل غسل مخه بنفسه

تعليقات مصريين على وسائل التواصل الاجتماعي كردَّة فعل لوفاة الرئيس الأسبق محمد مرسي، إثر سقوطه بسكتة قلبية أثناء محاكمته انقسمت إلى أقلية محايدة تطلب الرحمة والمغفرة، وبضعة أنفار في تقييم محايد للظروف التراجيدية التي أدَّت إلى استغلاله سياسياً بوضعه في منصب يفوق متطلبات خبرته ومؤهلاته السياسية.
أكثرية التعليقات عكست مستوى يدعو للرثاء من انعدام التفكير النقدي.
الخصوم توقفوا عند مساوئ العهد وإرهاب جماعة «الإخوان» للآخرين، واستنكر البعض مجرد طلب الرحمة والمغفرة.
الإسلاميون و«الإخوان» رفعوه إلى مرتبة الشهداء والقديسين والمفكرين، والتمادي باختراع مؤامرة لقتله (أقصى افتراض بالطبع هو عدم وجود إسعافات طبية حديثة للسكتة القلبية).
لن أتوقف كثيراً عند هذه الظاهرة، لأنني، كصحافي في برلمان وستمنستر - ولظروف صحية - لا أتابع ما يدور في مصر أو السياسة غير البريطانية بانتظام.
ما يهمني أن ظاهرة غياب التفكير النقدي عن أذهان الأجيال الجديدة وازدواجية المعايير، لا تقتصر على مصر أو العالم العربي.
آخرها ما حدث مع النائب المحافظ مارك فيلد الذي أُقِيل (مؤقتاً يوم الجمعة بانتظار إجراء تحقيق) من منصبه كوزير مساعد في وزارة الخارجية لتصرفه السريع في موقف يتفق العقلاء على أنه تصرف إيجابي شهم.
قرار الفصل اتخذه وزير الخارجية الحالي، جيرمي هنت، بالتنسيق مع رئاسة الوزراء في «10 داونينغ ستريت».
وللتوضيح، وزير الخارجية هنت يخطّط مستخدماً منصبه وإمكانيات الوزارة للترويج لنفسه كمرشح لخلافة تيريزا ماي في زعامة المحافظين، وبالتالي رئاسة الوزراء. ومنافسه الوحيد سابقه في المنصب، خفيف الظل، بوريس جونسون الذي فاز بأصوات 160 من نواب المحافظين مقابل 77 صوتاً لهنت، يوم الخميس، في تصويت نواب الحزب البرلمانيين لمرشحين يطرحان للاقتراع على حاملي بطاقة عضوية الحزب (أكثر من مائة وستين ألفاً).
فريق رئيسة الوزراء يدعم هنت الملقب في وستمنستر بـ«تيريزا بالبنطلون» (كاستمرار لنظام تيريزا ماي)، لكنه المفضَّل لمفوضية بروكسل التي تخشي جونسون لشعبيته، وبالتالي قدرته على اتخاذ موقف متشدد منها بتأييد جماهير الناخبين.
المؤسسة البقائية الموالية لبروكسل وشبكات التلفزيون (لمصالحها التجارية ومزاجية التفكير الجماعي لمحرريها) مستمرة في حملة النيل من جونسون لشخصه، وبتفسير تعليقات (أُخذت خارج السياق) من مقالاته الصحافية، بدلاً من فحص سياساته. الحملة، حتى الآن، نتائجها عكسية لفقدان الناخب الثقة بالمؤسستين السياسية القائمة والصحافية، خاصة شبكاتها التلفزيونية.
وهنا تأتي المعاملة الغريبة لمارك فيلد.
الخميس، كان حفل العشاء السنوي الذي يقيمه حي المال والبنوك في مانشون هاوس، مكتب اللورد عمدة مدينة لندن حي المال والبنوك (غير عمدة لندن صديق خان)، والمنصب يتغير سنوياً بالانتخاب في الخريف منذ 1747، وحالياً بيتر إيستلين العمدة رقم 691 للمنصب الذي يعود تأسيسه إلى 1189 ويسبق، بأكثر من خمسة قرون، منصب رئيس الوزراء (بدأ في 1721). في الحفل يلقي وزير المالية ومحافظ بنك إنجلترا خطابين يعكسان وضع المؤسسة الاقتصادية والمالية وتقديراتها السنوية، على الضيوف من سفراء ووزراء خارجية ممثلي البلدان والمصالح العالمية.
غزا الحفل محتجون ومحتجات من جماعة «غرين بيس» (السلام الأخضر) بمخادعتهم للأمن (وكان مسؤولية شركة خاصة لا البوليس) بملابسهم الفخمة «الشيك».
أثناء الهرج وصيحات «طوارئ». اندفعت محتجة تصيح بأن «البيزنس» وميزانية الوزير مسؤولة عن التغيير المناخي، وفي يدها حقيبة صغيرة. كانت على مسافة أقدام من الطاولة الرئيسية من وزراء ضيوف أجانب، بمن فيهم سفراء عرب. كان فيلد على حافة الطاولة، فاعترض سبيلها، ثم وضع يده على قفاها ليديرها لتواجه باب الخروج ويسوقها، حتى ظهر «الأمن» المختفي ليصطحبها والمحتجين خارج القاعة بعد أن صور زملاؤها الفيديو على الهواتف الجوالة.
كان فستان المحتجة الضيق عاري الظهر بلا ياقة أو أكمام يستطيع أن يجذبها منها، وربما لو جذبها بعيداً من غير قفاها لكان اتُّهم بالتحرش.
قامت قيامة التحالف الليبرالي اليساري والجمعيات النسوية، وطالبوا البوليس باحتجاز فيلد وتوجيه تهمة «جنحة تعدٍّ»، ولا يزالون يحتجون حتى كتابة هذه السطور.
طبعاً فاتهم أنه لو كان الاحتجاج في أميركا لتعرضوا لرصاص البوليس المسلح، ونسوا كيف نسف الكوماندوز الفرنسيون سفينة احتجاج «غرين بيس»، وأغرقوها، قرب أوكلاند في جنوب الباسفيك بأوامر من الإليزيه.
ولوضع الحادثة في إطارها، يتعرض النواب والساسة لاعتداءات مستمرة وحملات كراهية، وتعرّض نائب في مكتبه بالدائرة لاعتداء بسكين، ونائبة أخرى قتلها متطرف مخبول قبل ثلاثة أعوام.
وقبل عامين، عندما اخترق كوميديان مهرّج مؤتمر حزب المحافظين أثناء خطاب رئيسة الوزراء ماي ليسلمها نسخة مكبرة من «استمارة الرفت»، انتقد المعلقون أنفسهم الذين يهاجمون فيلد، اليوم، زملاءه الوزراء في الصفّ الأمامي لعدم منعهم المقتحم، لاحتمال كونه مسلحاً.
الملاحَظ ازدواجية معايير ونفاق تحالف اليسار البيئي والحركة النسوية.
فاليساريون يطالبون البوليس، عبر استوديوهات «بي بي سي» باعتقال منتقديهم على «تويتر» بتهم «ترويج الكراهية»، لكنهم صفقوا لتعرض الساسة المحافظين ومرشحي حزب «البريكست» لهجوم محتجين يساريين بـ«الميلكشيك» (مشروب اللبن بالفانيلا والفواكه)، وتكرر الأمر لدرجة تطوير الصحافة لفعل جديد، «تملشيك»، أي تعرض لقذيفة كوب «الميلكشيك» احتجاجاً.
بلغ النفاق ذروته، الأسبوع الماضي، بنكتة «مونولوجست» يسارية مذاعة (الكوميديان المحافظون انقرضوا من «بي بي سي») تقول: «ولماذا تدفع ثلاثة جنيهات في (الميلكشيك) وماء النار من بطارية السيارة متوفر مجاناً»؟
انزعاج ضحايا شوهتهم هجمات السرقة بماء النار قابلته «بي بي سي» باعتذار باهت بأنها مجرد نكتة، بينما كانت فصلت مذيعين لتغريدات «تويتر» احتجّت عليها النسويات.
كان هذا في رأس فيلدز عندما تحرك غريزياً لحماية الحاضرين، فلم يعرف بالضبط ماذا تحمله المحتجة في حقيبة يد تتسع لزجاجة ماء نار، أو سلاح ناري، أو مسحوق سلاح كيماوي أو بيولوجي أو مفرقعات.
وفُصِل مساعد الوزير، مؤقتاً، بدلاً من شكره على شهامته؛ فالحكومة تسرعت لإرضاء هوجة صحافية إذاعية تعكس مزاجاً عاماً لجيل غسل مخه بيده، لا بيد قوى غامضة خفية بهستيريا «التغيرمناخية» كآيديولوجيا في قوة إيمان قادر على تذويب القيم الاجتماعية الأخلاقية المعتادة، كاحترام الخصوصية أو فهم الفارق بين حق الاحتجاج وضرورة احترام حقوق ضيوف بلدان لها مصالح تجارية مع بلدهم بمليارات الجنيهات، والأهم حق الآخرين في أن يكون لهم موقف مختلف دون «ميلكيشيكنتهم».