إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

حكاية مدينة جريحة اسمها طرابلس

ما كان ممكناً أن تأتي في توقيت أسوأ تلك العملية الدامية الإرهابية والعبثية في آن، التي شهدتها أخيراً مدينة طرابلس، ثاني كبرى مدن لبنان. ما كان ممكناً أن تُوقّت بصورة أكثر إيذاء، سواءً على المستوى اللبناني أو في المناخ العربي والإقليمي.
فعلة الشاب عبد الرحمن مبسوط، التي انتهت بتفجيره نفسه في أعقاب جولة قتل مجنونة «ضربت عدة عصافير بحجر واحد»، أعادت إلى الأذهان ودهاليز السياسة ومنصات الإعلام أبشع المشاهد والخلاصات والتعابير.
على المستوى اللبناني، بينما يعيش اللبنانيون حالة خطرة من استنهاض الأحقاد و«شيطنة» المكوّن السنّي، بالذات، يأتي شاب سنّي من قلب «عاصمة» السنّة - كما أحبّ أحد الساسة الطرابلسيين الشماليين تذكيرنا قبل بضع سنوات - ليقتل عسكريين شباناً يمثلون آخر ما تبقى من خيال دولة وبقايا مؤسسات، صاحب المصلحة الأكبر في حمايتها... السنّة.
والحال، أنه في وضع لبنان المُزري حالياً، السنّة - وبطبيعة الحال، معهم الأقليات الصغرى حجماً - هم أصحاب المصلحة في استعادة الدولة في ظل حراب احتلال أمني فعلي تمثله إيران عبر «حزب الله»، وانشغال القيادة المسيحية الأولى في تصفية حساباتها الصغيرة مع الجميع إلا مع الذين صادروا الدولة لأنفسهم. بل، إن هذه القيادة المسيحية تستقوي بهؤلاء، وتضرب بسيوفهم، طمعاً بمناصب اسمية لا تستند إلى مقوّمات ديموغرافية أو عسكرية... رغم مناورات التذاكي والتآمر والتطاول داخل لبنان وخارجه.
أما على المستويين العربي والإقليمي، فأمامنا تفاقم المحنة السورية وسط تشرذم عربي، وتسابق على الهروب من اتخاذ مواقف شجاعة درءاً لويلات آتية حتماً، و«سيناريوهان» مقلقان يتعلقان بإيران وبإسرائيل، و«حالة تركية» غامضة محكومة بإيقاع حرية التحرك الروسي في الشرق الأوسط.
أما القاسم المشترك بين كل ما تقدّم فهو وجود مأزق كبير تتشابك عنده المصالح... وكلها تقريباً في غير صالح العرب، وبالذات، في غير صالح السنّة.
سياسيان لبنانيان تنبّها إلى «النغمة» التي رافقت «عملية مبسوط» وما تلاها، هما الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط والدكتور فارس سعيد، النائب السابق والأمين السابق لتجمع «قوى 14 آذار»، وبادرا بشجاعة إلى التحذير من «شيطنة» السنّة. وبالمناسبة، هذه «النغمة» ليست جديدة، بل ازدادت ارتفاعاً بعد التسوية الرئاسية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ورضوخ قوى مؤثرة في «14 آذار» لشروط عون، التي هي شروط «حزب الله»، بالنسبة لقانون الانتخابات... ومن ثم اختلال موازين القوى التي أدت إلى استيلاد حكومة ائتلافية ضعيفة تعمل في ظل «أمر واقع» يقوم على مبدأ «غالب ومغلوب» صريح.
وواقع الأمر أن المسألة ما عادت لفظية أو إعلامية، بل نراها تمسّ أداء الوزراء، الذين استمرأ بعضهم تجاوز صلاحياته، بل تجاوز «المسؤولية الجماعية» المُلزِمة للفريق الحكومي الواحد، وأضحى يتصرف وكأنه حكومة قائمة بذاتها لأنه يحظى بدعم استثنائي داخلياً وخارجياً. ولكن حتى على الصعيد اللفظي، ثمة مَن يتعمّد الإيحاء، بل والإقناع، بأن الإرهاب صفة ملازمة حصراً لطائفة واحدة أو جماعة واحدة. وأن العنف الأهوج الأعمى «ماركة مسجلة»، و«التطرف» نقيصة محجوزة لفئة من اللبنانيين دون غيرها.
في جو كهذا، يتعذّر التفاهم الفعلي على شيء، ومن ثم، يستحيل بناء وطن.
ما حدث في طرابلس قد يكون حالة من حالات «الذئاب المنفردة» أو لا يكون. وقد تكون أو لا تكون هناك خلايا نائمة من الشباب الطرابلسي المأزوم مادياً، والمحروم ثقافياً، والمقهور اجتماعياً، كيف لا... وطرابلس لا تبعد كثيراً عن مدن وقرى سورية شهدت «تهجيراً طائفياً» بقوة السلاح، الذي بعضه عبر الحدود إلى الداخل السوري من لبنان، فازداد فقراؤها فقراً.
ثم إن لبنان شهد بسبب احتكار السلاح، تفاوتاً في المعاملة بين أشكال متعدّدة من التطرف الديني. إذ بينما دخل بعضهم البرلمان وصاروا نواباً ووزراء ومرجعيات في تعريف «الشرعية» و«الوطنية» و«الحرب على الإرهاب»، زُجّ بالبعض الآخر في السجون من دون محاكمة في الكثير من الحالات... ما ضاعف الشعور بالظلم والحيف، وولّد مرارة كان من الطبيعي أن تُترجَم سخطاً على المجتمع وحقداً على نخبه السياسية.
بل إن طرابلس، بالذات، عانت الكثير خلال العقود الماضية. وعمل البعض عمداً على تحويل هذه المدينة العريقة من معقل للفكر الوطني والهوية الثقافية العربية والنزعات التقدمية التحرّرية إلى «تهمة» بل «إدانة دائمة» بالتطرّف و«القندهارية».
هذه المدينة التي دخل مفتيها عبد الحميد كرامي عالم السياسة اللبنانية منافحاً عن العروبة لا الانغلاق الديني، وتنتمي والدة مفتيها الحالي مالك الشعار إلى بلدة بترومين المسيحية، التي انتخبت من النواب بعثيين وقوميين و... ماركسيين، والتي أسّست فيها مدارس مرموقة للإنجيليين الأميركيين والفرير الفرنسيين، ما كانت في يوم من الأيام بؤرة تعصّب ديني.
زرع بذور التعصّب كان متعمداً وازداد كثيراً في ظل ثلاثة عقود من هيمنة النظام الأمني السوري - اللبناني على المدينة. واللافت أن بعض الشخصيات الأكثر تطرفاً من أبناء المدينة كانت مقربة جداً من هذا النظام، وهو واقع يعرفه الطرابلسيون جيداً.
أكثر من هذا، إبان المعارك المدفعية التي كانت تندلع موسمياً في شرق طرابلس بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنّيّة، وبعل (أو جبل) محسن ذات الغالبية العلوية، سألت أحد أصدقائي من الأكاديميين الطرابلسيين عن خلفيات تلك الأحداث، فأجابني أن غالبية تقارب الـ80 في المائة من المشاركين في القتال مرتبطة بأجهزة أمنية، وهم يؤجّجون ويخفّفون تبعاً للتعليمات التي تردهم.
ما علينا من كل هذا... ثمة حقيقة مؤلمة في واقع طرابلس، التي أعطت لبنان عدداً لا يستهان به من رؤساء الحكومات، وعرفت الفنون والصناعات والمؤسسات الثقافية منذ القدم، وتضم اليوم عدداً من أغنى أغنياء لبنان والعالم العربي، هي أنها سميّت أخيراً كإحدى أكثر مدن حوض المتوسط فقراً.
هذه الصفة لا تليق بطرابلس...
الفقر كافر... وأسوأ ما فيه أنه يدفع إلى الهرب نحو عنف انتحاري تحت ستار الإيمان!