إميل أمين
كاتب مصري
TT

مكة... طريق التضامن العربي

وكأن نسمة عروبية تضوع بمسك لها طيب طال انتظارها، قد هبت على مكة المكرمة في الساعات القليلة الماضية، ذكَّرت الحضور والعالم بأن العرب أمة حية، نابضة، قادرة على التفكير والتدبير، بغير خجل أو وجل، ومن دون مداراة أو مواراة.
أظهرت قمم مكة الثلاث أن هناك إدراكاً ووعياً بالغين لدى الشعوب العربية وقيادتها، جهة اللحظات الحرجة التي تعيشها المنطقة، لا سيما في ظل التغيرات الجيوبوليتيكية العالمية الأخيرة.
أثبت العرب الذين لبوا دعوة الملك سلمان أنهم جاهزون لكل الاحتمالات لمواجهة الاختلال الذي تسعى بعض القوى الإقليمية إلى إحداثه، ليختصم من الحضور والنفوذ العربيين التاريخيين في المنطقة.
لا نغالي إن قلنا إنه لم يصدر بيان ختامي عن قمة عربية في قوة وحسم بيان قمة مكة منذ فترة، فقد وضع النقاط على السطور بشكل قاطع، ولم يترك مجالات للتأويل أو التفسير، فقد أشار إلى أن إيران عليها أن تتوقف الآن وهنا، عن كافة أشكال الاعتداءات والتدخلات والمخططات الموجهة إلى جيرانها في الخليج العربي من جهة، وإلى عدد من الدول العربية البعيدة عنها جغرافياً، غير أنها تسعى إليها من خلال أذرعها الميليشياوية من جهة أخرى، كما الحال في اليمن بنوع خاص.
أظهرت قمم مكة ما للمملكة العربية السعودية من حضور في قلوب العالم العربي، سيما وأن الجميع اعتبر أن الاعتداءات التي تعرض لها الأمن القومي السعودي عبر اعتداءات الحوثي الصاروخية، هي اعتداءات على الأمن القومي العربي برمته، دون تمييز أو تخصيص للمملكة دون سواها.
بدا واضحاً أن هناك تمييزاً مؤكداً بين الشعب الإيراني وبين حكومة الملالي، وهذا ما أشار إليه الملك سلمان في كلمته، التي حذر وأنذر فيها من تعرض الاستحقاقات والنجاحات التاريخية لدول مجلس التعاون للضياع، أو الخطر من جراء ما تقوم به إيران.
ولعل الذين تابعوا كلمات الرؤساء والزعماء العرب عبر القمة الخاصة بهم، قد وقر لديهم أن هناك رؤية أقرب ما تكون إلى خريطة طريق عند العرب، طرفاها غصن الزيتون من جانب، والحسام المهند من جانب آخر.
غصن الزيتون قام العرب قبل ساعات بمده طويلاً إلى الجانب الإيراني، وإن كان المرء يشك شكاً مطلقاً في أن إيران سوف ترد رداً إيجابياً على البيان الختامي الذي أجمل طلبات العالم العربي؛ لكن حتى يكون العالم شاهداً على ما وصلت إليه الأمور الخلافية من قبل طهران.
أما الحسام المهند فهو لغة أخرى تعرفها إيران جيداً، وربما في واقع الحال لا تجيد غيرها، ولهذا كان التركيز جلياً على فكرة المواجهة والردع، فمن دون ترس وسيف تبقى الأمم والشعوب في حالة خطر داهم.
من بين مرتكزات نجاح هذه القمم أنها عمقت حالة التضامن العربي - العربي، انطلاقاً من القواسم العربية المشتركة، تلك التي يتنادى إليها الجميع وقت الخطر، وإن كان ذلك لا يعني بحال من الأحوال عدم التعاون مع الآخر، لا سيما الحلفاء، وقد جاء قرار إعادة انتشار القوات الأميركية في المنطقة ليؤكد على فلسفة جبر الذات العربية من جهة، ومد الجسور الاستراتيجية مع العالم الخارجي من جهة ثانية.
أثبتت القمم أن إيران إشكالية عريضة، فهي تمد أياديها الحانقة والحاسدة إلى الداخل العربي، لا من أجل التعاون على تحسين حياة المواطنين العرب؛ بل لتحقيق مراكز نفوذ متقدمة لها على حساب استقلال الدول العربية، وحرية قرارها.
لسنا في حاجة إلى التدليل على صحة ما نقول به، إذ يكفي النظر إلى العراق وكلمته وموقفه من البيان الختامي، فعلى الرغم من عروبة العراق، فإنه بدا كمن وجد نفسه بين المطرقة والسندان، أو بين فكي كماشة، فهو من جهة يحاول جاهداً الحفاظ على عروبته التاريخية، ومن جهة ثانية تتنازعه الضغوطات الإيرانية في الداخل العراقي، الذي بات متسماً بمحاصصة طائفية، ويرزح تحت ثقل ميليشيا «الحشد الشعبي»، وكل خوف العراق العروبي أن يجد بلاده موقعاً وموضعاً لحروب بالوكالة، لا تلبث أن تمسك بتلابيب الجسد العراقي الواهن أصلاً، وما خطط قاسم سليماني التي رصدها الجانب الأميركي إلا تأكيد لصحة الرؤية والتحليل.
حين نقول إن ريح التضامن العربي الطيبة قد هبت على الأرجاء من مكة من جديد، فالأمر حقيقة ساطعة، ذلك أنه تحت سماواتها ارتفعت أصوات قادة العالم العربي منذرة ومحذرة بأي تلاعب بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، واعتبار أي تحايل حول الحقائق التاريخية، مسألة إشكالية تعقد الأوضاع السياسية والدبلوماسية على الأرض، ولا تحل أياً من المشكلات الحاضرة.
ينادي خادم الحرمين الملك سلمان بحتمية جعل العالم العربي مركزاً ثقافياً واقتصادياً عالمياً مؤثراً، ما يعني أن العرب دعاة حياة لا مروجي موت؛ لكن بالقطع يمكن الجزم بأن الساعة تقتضي إعادة ترتيب الصفوف لوجستياً من جديد، فإيران لها آذان ولا تسمع، وعيون ولا تبصر، ولكل حادث حديث.