مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

حكايا الماضي: مالك بن الريب ومسلط الرعوجي!

من الملاحظات التي رصدها ثلة من الباحثين والمهتمين، التشابه الواضح بين بيئة الجزيرة العربية الثقافية والاجتماعية الأولى، الجاهلية والقرون الثلاثة من الإسلام تقريباً، وبين ثقافة وبيئة الجزيرة العربية في العصور التي عرفت بالعصور العامية.
من ذلك الشعر وأغراضه، وحسب الباحث السعودي الكبير دكتور سعد الصويان، فإن الشعر الشعبي أو النبطي، هو «ذائقة الشعب» شعب الجزيرة العربية الممتدة من لبيد وعنترة وزهير وجرير والفرزدق وذي الرمة والراعي النميري، حتى جبر بن سيار والخلاوي وحميدان وبركات ومحسن وابن لعبون والقاضي والعوني، وتركي بن حميد ومحمد بن هادي، وحنيف بن سعيدان وابن سبيل.
حتى القصص والحكايات تتشابه، ومن ذلك قصة وفاة «مسلط بن هذال» وهو فارس شهير من قبيلة عنزة الربعية الكبيرة، لقبّ بـ«الرعوجي» وسبب هذا أنه ضرب خصماً له على فرسه، فأسقطت الفرس صغيرها «الفلو» فلقبه الناس: «الرعوجي»، أي الذي «رعج» الفرس بضربته الشديدة.
كان صديقاً حميماً للشاعر الشهير محسن الهزاني (توفي تقريبا 1795م) ورثاه مرثية من عيون الشعر الشعبي.
أصيب مسلط الرعوجي في معركة قرب بلدة الحريق، ولما بدأ رفاقه يحفرون قبره قال قبل مماته:
قال الرعوجي مسلط وافي الاذكار
عصر الخميس وحفرتي جهزوها
شدّوا وخلّوني على دمنة الدار
ياحيسفا حتى عباتي خذوها
عقب العقاب الصيرمي طفيت النار
لو جمعوا كل الحطب ما وقدوها
(كتاب الحاوي لأشهر الألقاب والعزاوي، عبد الله بن زايد الطويان، ص84).
شرح الأبيات هنا يخرجنا عن مساحة المقال، فالعذر!
نحن إذن أمام فارس وشاعر يرثي نفسه ويخاطب صحبه ويشاهد قبره ويتذكر مجده، أليست هذه القصة بالضبط هي قصة «مالك بن الريب» الذي توفي نحو عام 57 هجريا، مع جيش سعيد بن الخليفة عثمان بن عفّان، أثناء مسيره لخراسان؟
مالك من كبد نجد، ومن رمالها، ورجح الباحثون أنه من رمال «القصيم» شمال وسط السعودية حالياً.
توفي الرجل شاباً، ويقال لدغته حية، فبقي معه بعض أصحابه، فقال رائعته الخالدة هذه:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضه
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا
مزار ولكن الغضا ليس دانيا
كم هو جميل تكرار «الغضا» هنا في 3 أبيات 6 مرات!
ثم يرسم هذه الصورة المهيجة:
تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي
مسيرك هذا تاركي لا أبا ليا
لعمري لئن غالت خراسان هامتي
لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
وأخيرا مشهد الرثاء الساخر هذا وهو ينقل الحديث الأخير لأصحابه:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني
وأين مكان البعد إلا مكانيا؟!
وبالرّمل مني نسوة لو شهدنني
بكين وفدّين الطبيب المداويا
فمنهن أمّي وابنتاها وخالتي
وباكية أخرى تهيج البواكيا
الأرض نفسها... الرجال أنفسهم... الحكايات نفسها من الماضي للحاضر.