د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

دموع هزيمة شجاع

رأينا فنانين كثراً في لحظات تأثر أمام الجمهور يذرفون الدموع لأن سؤالاً ما خدش فيهم منطقة من مناطق الوجع في الداخل والذاكرة. ولكن ليس مألوفاً أن يبكي مفكر في ندوة وأن تنزل دموعه أكثر من مرة في نفس الندوة.
هذه الدموع كانت للفيلسوف العربي والمفكر طيب تيزيني الذي غادرنا منذ أيام وقد ذرفها في ندوة التأمت في المغرب قبل قرابة أربع سنوات ومنها دخل فيما يشبه العزلة.
ولعل المطلعين على فكر الرجل وأطروحاته المنتصرة لقيم التنوير والمتأثرة بالمادية الجدلية والفكر الماركسي في التحليل والمقاربة، يفهمون جيداً دموع طيب تيزيني، التي تعني مرارة الشعور بفشل المفكر العربي في إحداث التغيير القيمي والثقافي وعجزه عن القيام بوظيفته التاريخية رغم وضوح الرؤى وعراء مَواطن الداء. لقد كانت دموع مفكر شعر بالهزيمة واللاجدوى وأنه كمن قضى حياته الفكرية يحرث في البحر.
ولعل ما جاء في بعض الصحف من أن الذين رافقوا جثمان الرجل لا يتجاوز عددهم الخمسين شخصاً يصب في هذا المعنى من سوء تقديرنا للفكر والمفكرين، أي أن وفاة مفكر في قيمة الفيلسوف طيب تيزيني لا تمثل حدثاً إلا في مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي الذي تفاعل مع خبر وفاة الرجل وتمت الإشادة بفكره وجرأته وأفكاره التشريحية الصريحة في نقد مشاريع النهضة العربية وعلاقة مجتمعاتنا المعطوبة مع التراث... وفي الحقيقة فإن ظاهرة تهميش وداع المفكرين والأدباء العرب عريقة في الأعراف العربية ويمكن القول إنّ حال تيزيني أفضل بكثير من غيره وكم من قامة ثقافية رحلت في صمت السلبية والحياد.
مارس تيزيني وظيفة المفكر النقدية بشكل مخلص، وكان في مشروعه النقدي متابعاً دقيقاً لتفاصيل تحولات الواقع العربي وقابضاً على ثغراته برؤية واضحة ثاقبة ومباشرة في نقدها الصريح. لقد اهتم مشروعه النقدي بالذات العربية في علاقتها بالتراث ودافع عن حيوية التراث ضد جهود التحنيط والفكر السلفي الجامد. لم يتذبذب في مشروعه بين الذات والآخر الغربي رغم أن جوهر أطروحاته تنويري وحامل لقيم التنوير المتمثلة في العقلانية وإعلاء شأن العقل والتأمل والإرادة والاختيار والحرية. ومن العبارات التي كان يكررها وتعكس روافده التنويرية قوله: «الكرامة قبل الخبز». أي أن أصل كرامة الإنسان في عقله وحريته أولاً.
ولكن هذه الجملة المفتاح في فكر تيزيني لم تغفل عن الحقيقة الأخرى وهي أن فشل حركات النهضة العربية ومشاريع التنمية التي انطلقت بُعيد الاستقلالات سببه إخفاقات اقتصادية أسهمت في تفشي ما يسميه الفساد والإفساد وتلاشي الطبقة الوسطى التي كانت العمود الفقري لمجتمعاتنا. بمعنى آخر فإن الخبز قد أطاح بمشاريع التنمية المنقوصة، وهكذا يتضح مدى هيمنة التحليل المادي للظواهر في فكر تيزيني الذي يمثل مزيجاً من قيم التنوير والماديّة الجدليّة وتأثره البالغ بالفلسفة الألمانية وكبارها ومدرسة فرانكفورت وأفكارها النقدية ذات الولاء لكارل ماركس وهيغل. لذلك فهو في أطروحاته يركز على مفتاحين أساسيين للإنسان وهما: الخبز والكرامة معاً ولا معنى لمفتاح دون الثاني.
أيضاً ترك لنا تحليلاً مهماً يكفي فهمه جيداً ومحاولة تطبيقه علاجاً لأسباب التأزمات التي تعيشها المجتمعات العربية حتى تُؤسَّس النهضة وفق الشروط اللازمة. ونقصد بالتحليل المشار إلى أهميته ما لخصه في مقولة مكثفة هي: الاستبداد الرباعي. وهي مقولة شرحها ببساطة ووضوح، حيث تتمثل في الاستفراد بالسلطة والثروة والحقيقة والرأي العام. وكما نلاحظ فإن مظاهر الاستبداد المذكورة التي تقوم على الاستفراد في حقل من حقول الفعل الاجتماعي هي أسباب التأزم ذاته وهي المحرك الدائم، كما كان ذلك دائماً في التاريخ للثورات ولعدم الاستقرار وللتوتر. فالمشكل يكمن في كيفية توزيع الثروة ومن يحتكر امتلاك الحقيقة وحديثاً فيمن يهيمن على الرأي العام عن طريق وسائل الإعلام.
إنّ النقد الذي مارسه تيزيني ضد النخب السياسية والدينية والاقتصادية مارسه أيضاً ضد النخب الفكرية ووصف المثقف العربي بالفشل والعجز وأن استقالته كانت واضحة ولم يسهم في عملية التغيير. وكما بحث عن أسباب الفشل العام فإن فشل المثقف العربي قد رده إلى غياب ثلاث ركائز أساسيّة هي الحرية والكرامة والكفاية المادية. وأهم استنتاج ونحن نطّلع على قراءته لعجز المثقف العربي هو أنه يطبّق التحليل نفسه، أي أن المثقف مثل المواطن العادي بل إنّه قبل أن يكون مثقفاً هو مواطن عادي وإذا كان محروماً من الخبز والكرامة كمواطن فإن ذلك لن يُنتج منه مثقفاً حراً ومهماً وفاعلاً باعتبار أن المثقف هو ابن بيئته وظروفه.
طبعاً قد تحتاج الفكرة الأخيرة إلى نقاش وجدل حول الحتمية التي تهيمن على جوهرها، ولكن نحن أمام فكر حي يحاور الواقع ويشخّصه ويقدم له العلاج اللازم بعيداً عن فكر المرهم العادي الصالح لكل خدش وداء.
رحل طيب تيزيني وهو يشعر بأن مجتمعه العربي الكبير يدور في حلقة مفرغة ويعيش الهدر المجاني المازوشي.