علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

تفسير معلول وعليل ومعتل

استهجن شريف يونس أن يلقِّب التقرير الإخباري المعنون بـ«بطل الريف في حمى الفاروق»، المنشور في العدد الثالث من مجلة «العالم العربي»، الذي يرى أن سيد قطب قد كتبه من دون توقيع... استهجن أن يلقِّب الملك فاروق بـ«راعي العروبة الأول». والواقف على السياق الزمني لعقد الأربعينات في تاريخ مصر وفي تاريخ الأقطار العربية الأخرى، ابتداء من عام 1943، لا يستهجن أو لا ينكر على ذلك التقرير منح الملك فاروق لقب «راعي العروبة الأول».
فمصر منذ ذلك العام المذكور شرعت رسمياً (أو حكومياً) في التوجه السياسي والثقافي والاقتصادي إلى العالم العربي، الذي كان إطاره السياسي والقانوني والإداري منظمة إقليمية، هي جامعة الدول العربية. ومصر كان لها الإسهام الرئيسي في إنشاء هذه الجامعة. وكان العرب بعمومهم، وعلى مستويات مختلفة، يعترفون بزعامة مصر قبل أن تتوجه إليهم حكومياً وشعبياً، ولقد تكرست زعامتها بعد ذلك التوجه. وكانوا يناصرونها في قضاياها الوطنية المحلية عندما كان اتجاهها محصوراً بين الاتجاه القومي الإقليمي والاتجاه الإسلامي العثماني، وبعضهم كان يحتذي بنضالات بعض أحزابها في سبيل القضية المصرية الوطنية. وتأثير مصر قبل التوجه المذكور في العديد من البلدان العربية كان ملموساً على أكثر من صعيد.
الاعتراف بزعامة مصر تقف وراءه جملة من الأسباب الموضوعية، على رأسها أنها البلد الأكثر تحديثاً وتطوراً وإمكانات من أي بلد عربي آخر.
أخلص من هذه الإشارات المقتضبة إلى أن لقب «راعي العروبة الأول»، الذي منحه ذلك التقرير الإخباري للملك فاروق لم يكن يستند إلى أن له تاريخاً في خدمة الفكرة العربية أو العروبية، لأنه ليس له ذلك التاريخ، وإنما يستند إلى أنه ملك الدولة العربية الأولى أو الزعيمة. هذا أولاً.
ثانياً: إن كاتب التقرير كان يشعر بالامتنان الكبير لصنيع الملك فاروق الذي أنقد الأمير عبد الكريم الخطابي من اضطهاد المستعمرين الفرنسيين الطويل له بإشرافه على خطة تهريبه إلى القاهرة وبسط بعد ذلك حمايته الملكية عليه، ورأى «تعبيراً عن ذلك الامتنان الكبير» أن أعظم تحية يوجهها له أن يسبغ عليه لقب «راعي العروبة الأول»، ورأى في الوقت عينه أن في إسباغ هذا اللقب عليه تحفيزاً له على أن يمد يد العون والمساعدة لمناضلين سياسيين عرب آخرين يكافحون من أجل استقلال بلدانهم.
لنستكمل الآن دكّ تفسير شريف يونس الذي توهم (بخفة ثورية وشطح ماركسي) أنه وقف فيه على سبب الخلاف بين سيد قطب رئيس تحرير مجلة «العالم العربي» وصاحبها يوسف شحاتة. وسبب الخلاف، كما في تفسيره، أن الأخير كان يريد منه مدح الملك فاروق ومدح الملوك العرب. ولقد رجم بأن سيد قطب خضع لما أراده منه يوسف شحاتة؛ فمدح الملك فاروق بأنه «راعي العروبة الأول»، لكنه (كما ذهب) ندم بعد أن مدحه هذه المدحة!
التقرير الإخباري «بطل الريف في حمى الفاروق» الذي جزم شريف يونس بأن سيد قطب كتبه من دون توقيع، وقطع بأنه بعد أن كتبه ندم على ذلك، كان موضوعه الأساسي الأمير عبد الكريم الخطابي، وليس الملك فاروق. وأسلوب كتابة هذا التقرير لا يشي - مطلقاً - بأسلوب سيد قطب في الكتابة، كما في موضوعات أخرى كتبها في تلك المجلة من دون توقيع. ومما ينفي أنه كان كاتب ذلك التقرير، أن التقرير اعتمد - بشكل أساسي - على شهادات الصحافة العالمية في الأمير عبد الكريم الخطابي، وسيد قطب لا يعرف لغة أجنبية تتيح له نقل تلك الشهادات من مصادرها. وعلى الأغلب، فإن كاتبه من أعضاء مكتب المغرب العربي بالقاهرة، الملمين بتاريخ الأمير، وبما قيل عنه في الصحافة العالمية.
حدد شريف يونس ساعة الندم، بأنها حصلت بعد صدور العدد الثالث الذي تضمن ذلك التقرير، وهذا ما يُفهم من قوله عن سيد قطب: «ليعود نادماً ويستقيل من رئاسة التحرير بعد إصداره عدداً إضافياً».
هذه العبارة الغريبة والمربكة - وأعني بها «عدداً إضافياً» - لكل من يفهم في صنعة الصحافة، قالها لكي يتسق ضبطه لساعة الندم الدقيقة، التي حددها بعد صدور العدد الثالث، مع وجود سيد قطب رئيساً للتحرير في العدد الرابع!
سأنقض ما زعمه شريف في هذه الجزئية ببيّنتين دامغتين من العدد الرابع، الذي ادعى أن سيداً أصدره، بوصفه عدداً إضافياً! فقدم بعد أن أصدره، ليوسف شحاتة، ورقة استقالته من رئاسة التحرير!
فأقول: في العدد الرابع كتب سيد قطب موضوعاً عنوانه «الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ»، وكان هذا الموضوع من بين الموضوعات التي نوهت المجلة في عددها الثالث بأن القارئ سيطالعها «في العدد القادم»، وكُتب فوق ذلك العنوان من جهة اليمين عنوان آخر، هو «بدء المعركة».
هذا العنوان «بدء المعركة» هو عنوان لباب جديد. وهذا ما يوضحه تعليق كُتب باسم المجلة، في أسفل آخر صفحة من صفحات مقال سيد قطب، سأنقل لكم نصه: «العالم العربي: هذا الباب مفتوح للجميع شيوخاً وشباناً في جميع أنحاء العالم العربي، ولن نتحرج من قسوة الحقائق في الجدل ما دام التعبير في المستوى اللائق بمجلة (العالم العربي)».
وفي العدد الرابع أيضاً تنويه بمقال لسيد قطب عنوانه «المعركة بين الشيوخ والشباب»، سيطالعه القارئ في العدد الخامس.
ومن الواضح من عنوانه أنه استكمال لما كتبه سيد في العدد الرابع. ومن الواضح أيضاً أن واضع الباب الجديد هو سيد قطب، بدليل أنه كتب الموضوع الأول فيه وكتب الموضوع الثاني الذي ألغى يوسف شحاتة ومحمود العزب موسى، رئيس التحرير الجديد، نَشْره في العدد الموعود، وأعني به العدد الخامس.
إن هاتين البيّنتين الدامغتين تنقضان ما زعمه شريف حول توقيت الاستقالة الدقيق وحول أن سيد قطب هو الذي استقال ولم يُقل.
إن إقالة سيد سببها مقاله «معركة الضمير الأدبي: شبان وشيوخ»، وليس سببها (كما قال شريف يونس) «مبادئه الخاصة»... «مبادئه الخاصة» (لتذكيرك عزيزي القارئ) التي سخر محمود العزب موسى منها سخريةً مُرّة، وشكّك يوسف شحاتة في وجودها أصلاً، وجبن سيد قطب عن أن يدافع عن نفسه أمام ما قالاه عنه.
نأتي الآن لوضع صورة الملك فاروق على غلاف العدد الخامس التي خال شريف يونس أنها تدعم تفسيره المعلول والعليل والمعتل.
غلاف مجلة «العالم العربي» حين كان سيد قطب رئيس تحريرها من العدد الأول إلى العدد الرابع، كان غلافاً ثابتاً على طريقة المجلات الثقافية. وهذا الغلاف كان مكوّناً من رسوم بخط اليد: رسم لشمس ورسم لقوارب شراعية ورسم لباخرة ورسم لفنار ورسم لخيمة ورسم لنبتة صغيرة. وحينما تولى الصحافي والكاتب السياسي في جريدة «الأهرام» محمود العزب موسى رئاسة تحريرها، وأصدر عددها الخامس، حرّك الغلاف وجعل كل عدد من أعدادها يحمل صورة فوتوغرافية مختلفة. أي أنه صحّف غلاف المجلة. وهو فعل ذلك لأن مهنته وصنعته هي الصحافة، ولم يكن، كسيد قطب، أديباً محضاً يفتقر إلى أدنى خبرة في الصنعة الصحافية.
وكانت البداية في الغلاف المتحرك وضع صورة الملك فاروق، وكان المسوغ المهني الأول لذلك أن الموضوع الأول في المجلة هو نشر كلمته الملكية بمناسبة شهر رمضان، وكان المسوغ المهني الثاني أن نشر صورته على أول غلاف متحرك سيزيد من إقبال القراء على شراء المجلة، فهو ملك البلاد أو ملك وادي النيل، كما جاء في صورة الغلاف.
حين ترك محمود العزب موسى رئاسة تحرير المجلة، استمر الغلاف المتحرك مع الصحافي الذي خلفه في هذا المنصب، وهو أسعد حسني. ومن بعض الأعداد التي حصلت عليها ابتداء من أعداد سنة 1957، رأيت أن العديد منها يحمل صوراً لفتيات.
من هم الملوك العرب الذين طالب شريف يونس قارئ كتابه بأن يراجع سلسلة صورهم على الغلاف في الأعداد التالية للعدد الخامس؟
أعداد المجلة التي توفرتُ عليها في عهد رئيس التحرير محمود العزب موسى هي العدد الخامس والسادس والتاسع والعاشر والثاني عشر، ولم أتوفر على العدد السابع والثامن والحادي عشر. العدد السادس يحمل غلافه صورة الملك عبد العزيز، والعدد التاسع يحمل غلافه صورة الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق وصورة الملك فيصل الثاني، والعدد العاشر يحمل غلافه صورة الرئيس شكري القوتلي، والعد الثاني عشر يحمل صورة كُتب عليها الإمام الراحل يحيى بن حميد الدين ملك اليمن! وقد قال الغلاف عنه «الراحل»، لأنه أشيع في عام 1947 أن الثوار قتلوه، ولم يكن هذا الخبر وقتها صحيحاً، فالثوار قتلوه عام 1948.
وكما تلاحظون، فإن ضمن صور الغلاف التي عدّدتها صورة الرئيس السوري شكري القوتلي. وهذا معناه أن صاحبنا ثوري جمهوري مغالٍ، يكيل بمكيالين حتى قبل أن تنشأ فكرة إسقاط العروش الملكية والعمل عليها في مصر وفي العالم العربي عند الأحزاب القومية والأحزاب الشيوعية... يكيل بمكيالين، لأنه لا بأس عنده في أن تحمل أغلفة المجلات القديمة صور الرؤساء الجمهوريين اليمينيين، رغم أنه ماركسي معادٍ لليمين السياسي ولحكوماته في الماضي بإطلاق، لكن الخطيئة كل الخطيئة والإثم السياسي والأخلاقي المبين عنده أن تحمل صور ملوك! وللحديث بقية.